«الأربعمئة ضربة»: الخلاص في دار السينما
صباح جلّول صباح جلّول

«الأربعمئة ضربة»: الخلاص في دار السينما

«الأفلام القادمة تبدو لي أكثر حميميةً حتّى من كتابة بيوغرافيا ذاتية. إنها أشبه باعتراف، أو بدفتر مذكرات». (فرنسوا تروفو)

يشعل الفتى شمعة للكاتب الفرنسي بالزاك، يعتبره قديسه الخاص، ويصلي له كي يساعده على إتمام امتحان الإنشاء في اليوم التالي على أحسن ما يكون. الفتى هو أنطوان دوانيل، يعيش في باريس خلال الخمسينيات مع أم عصبية ووالد ودود، غير أن كليهما يقضيان وقتاً كثيراً خارج المنزل، وقليلاً ما يتنبّهان إلى حاجة انطوان لهما.

الكل يسيء فهم أنطوان: والداه، المدرسون والشرطة، ويطلقون عليه ألقاباً مثل: مشاغب، مثير للمتاعب، فاشل. لكنّ الصبي يعد أمه بأنه سيبلي بلاء حسناً في امتحان الإنشاء. بعد تأثره ببالزاك، يخترع أنطوان مزاراً له ويشعل له شمعة، كأنّه قديسه الخاص. لكن الأستاذ في المدرسة لا يتوقع أن تلميذه "الكسول" يمكن أن يكون صادقاً في محبة بالزاك وكتاباته. لذلك عندما يقتبس أنطوان منه في امتحان الإنشاء، يقوم الأستاذ بطرده من الصف ويرفض استقباله مجدداً، معتبراً أن موضوعه سرقة أدبية موصوفة. من هنا، تبدأ حياة الفتى بالتدهور، فهو لم يعد أنطوان المشاغب فقط،، بل صار أنطوان الفاسد الخارج عن القانون بنظر أهله.

من شقة والديه الضيقة إلى الشارع، يخوض أنطوان التجربة مع صديقه الذي يأويه، ويقترح عليه السرقة من أجل أن يستطيع الاستمرار. لكن الشرطة سرعان ما تقبض عليه، ويقرّر الوالدان أنهما لا يريدان إيواءه مجدداً، لأنه سيستمر بالهروب. لا تبدي الأم عاطفة حقيقية تجاهه، لكنها تقول للشرطي أنّها تتمنى أن يوضع أنطوان في إصلاحية قريبة من البحر، فهو لم يرَ البحر يوماً.

عندما يهرب أنطوان من الإصلاحية، يسمح لنا تروفو بأن نركض معه بين البساتين، تحت الجسر وعلى الطريق إلى أن نصل معه أخيراً إلى شاطئ البحر. يركض أنطوان حرّاً، تاركاً آثاره على رمال الشاطئ، إلى أن يصل إلى المياه. يلتفت وينظر إلى الكاميرا، إلينا، في لقطة شهيرة اختار تروفو أن يجمّد فيها الصورة ويقربها إلى وجه انطوان. لعل تروفو أراد النظر في وجه نفسه.

فيلم الأربعمئة ضربة هو أوّل فيلم طويل قام بإخراجه فرنسوا تروفو عام 1959. هو فيلم مستوحى بشكل كبير من سيرة المخرج الذاتية وطفولته، كأن تروفو كان بحاجة لإعادة تمثيل مشاهد من ماضيه في فيلمه الأول كيّ يتخطاه إلى مرحلة جديدة، يكرّس فيها نفسه للسينما. أهدى تروفو الفيلم أهداه لوالده الروحي، الناقد والمنظّر السينمائي أندره بازان، الذي ساعده على الخروج من مشاكله آنذاك وإيجاد طريقه في عالم الإخراج، والذي توفي قبيل بدء تصوير الفيلم. تظهر في الفيلم بوادر الموجة الجديدة الفرنسية، التيار السينمائي الذي صار تروفو من روّاده، جنباً إلى جنب مع جان لوك غودار وكلود شابرول وغيرهما. يعتبر البعض أن فيلم الأربعمئة ضربة هو أول أفلام الموجة الجديدة، حتّى قبل فيلم غودار "على آخر نفس" (1960).

داخل أنطوان دوانيل هناك شيء من هولدن كولفيلد، بطل ج. د. سالينجر في رواية الحارس في حقل الشوفان. تتشابه الشخصيتان في كونهما تكتشفان في سن مبكرة زيف المجتمع والناس من حولهما، ولا تترددان بالتمرد على الأنظمة السلطوية، وفي النتيجة لا تترددان بالهروب من الأماكن التي تحكمها هذه النظم.

أعاد تروفو إسناد شخصية أنطوان دوانيل إلى الممثل جان بيير ليو مرّاتٍ عدّة: في فيلم قصير و3 أفلام طويلة، نتابع فيها حياة الفتى حين يصبح رجلاً ويحب ويتزوج. هذا التعاون الدائم مع ليو مردّه إلى كونه الممثل الأفضل بين أبناء جيله، بحسب تروفو، والأقدر على أداء شخصية تشبهه: "هناك ممثلون مثيرون للإهتمام حتى لو لم يفعلوا شيئاً سوى الوقوف أمام الباب في المشهد. جان بيير ليو واحد من هؤلاء".

الفيلم، في الخلاصة، يفيض إحساساً، وقد لاقى نجاحاً كبيراً وحصد تروفو عليه جائزة أفضل إخراج في كانّ 1959. السينما كانت كهف تروفو في صغره، حين كان يتغيب بشكل متكرر عن المدرسة للذهاب لمشاهدة الأفلام كما بطله أنطوان دوانيل، والسينما كانت كهف تروفو كبيراً أيضاً.

 

المصدر: السفير