«نساءات» الخيام يتحدين غبار الذاكرة
هناك، لم يكن المشهد قاتماً، بل كان مشعاً من شدّة الظلمة التي تسكن الجدران، فأحيان كثيرة تكون العتمة أشد وضوحاً من الأضواء، كعتمة زنزانات الخيام حيث تدور مسرحية «نساءات» للمخرج مازن سعد الدين.
إلى معتقل الخيام أخذنا سعد الدين، إلى ذلك الجرح الذي دمّر ولم يندمل، إلى تلك المأساة التي استحالت أسطورة، إلى تلك الزنازين التي استحالت ايقونة التحرير يوم طرد المحتلّ، يوم اكتشفنا أن انتصار الخير على الشر ممكن أن يكون خارج قصص الأطفال والمخيلات الشعبية.
لكن مازن سعد الدين، لم يشأ أن يقطف لحظة الانتصار بل أراد الاحتفاء بالجرح والألم. استعار كتاب الأسيرة المحررة سهى بشارة «أحلم بزنزانة من كرز»، واستعار شخصيتها أيضاً وعرّج على ذاكرتها، هي أيضاً كانت حاضرة لتشاهد العمل الذي عرض في «مسرح غلبنكيان» في LAU. لم يستعر مازن القصة فحسب، بل عرف كيف ينسج العلاقة الحميمة بين السجينات وأجسادهن، علاقتهن مع الوقت والوجع، مع سطل التنك والملابس، كانت التفاصيل أحياناً أقسى من السجانَين (بشار خوري وجواد رزق الله)، والذكريات أكثر ألماً من السوط وأسلاك الكهرباء.
نجح مازن في كسر المسافة بين الخشبة والجمهور، رغم أنه تعمّد جعل من المسرح قفصاً مغلقاً، فالسينوغرافيا، على بساطتها، صممت لتدخل الجميع حلقة من التوتر الدائم، وتتكامل مع بارومتر حركة الأجساد المتألمة. العمل ركز كثيراً على الحركات الجسمانية والجهد الشخصي لا سيما للممثلات (سهى نادر وكريستين يواكيم ونور حسان وكريستيل فارس ولمى صعب)، لتكتمل حلقة من الدراما القاتمة لم يخترقها سوى صوت وائل الأسعد الذي أبقاه المخرج خارج الخشبة، ليمثّل الأمل والنوستالجيا التي لم تغب عن الأسيرات.
وللأسيرات هنا حكاية ثانية. كثيراً ما كتب عن السجناء والسجينات، وكثيراً ما وصلت تلك الأعمال إلى خشبات المسرح. لكن قلة فقط عالجت القضية من وجهة نظر نسوية، أي تتعامل مع المرأة السجينة بواقعية ودقة لا مثيل لهما. لكن يؤخذ على المخرج انه مال أحياناً نحو الشاعرية في الأداء. للممثلات دور أيضاً في هذه الهفوة. كانت البطولات تكتب بغير مكانها، فبدا على المسرحية رفضها التسليم بواقع الانهيار تحت التعذيب والإهانات. إنه خيار في النهاية تماماً كخيار المخرج باستخدام خمس ممثلات وممثلين في حين كان باستطاعته تقليص العدد إلى النصف والتركيز أكثر على الكتابة الدرامية للشخصيات. لكن سعد الدين يكره البطولات المطلقة ويفضل الجهد الجماعي على الجهود الخاصة.
«نساءات» مسرحية من المفترض أن يعاد عرضها في مطلع العام المقبل على خشبة «مسرح المدينة»، لكن عرض «غلبنكيان»، كشف عملاً جدياً مشغولاً بجهد واحتراف عاليين. والأهم أنه استطاع أن ينفض الغبار عن قضية ظنناها اهترأت على رفوف الذاكرة.
المصدر: الاخبار