قصّة حصار الطّيرة
نحبّه جدّاً.. أما هو فليس بالضرورة أن يبادلنا المشاعر ذاتها، فكلّ ما يراه فينا هو أننا مجرد جمهور، وكلما لامس ازدياداً في حبنا له كلما علا منسوب نرجسيته، إلى درجات غير مقبولة أحياناً كأن يتركنا ويمضي...
هو أبو العبد الفلسطيني الواقعي، لا أبو العيد البيروتي المتخيّل بطل النكات اللبنانية الفاحشة!! أبو العبد الطيراويّ، من طيرة حيفا، تلك القرية التي جعلت الروح الفلسطينية الساخرة شعارها: مجحاف وبطحة عرق، كدلالة على اختصاص أهلها في مهنة الدهان، وولعهم الشديد بالخمر.
الميزة الأهم لأبي العبد الطيراويّ أنه راوٍ محترف، يكفي أن يأتي (كَيْفَه) الحكائي حتى يذهب في (سوالفه) إلى أقاصي الأقاصي، دون مبالاة بتزوير التاريخ أو باتهامه بالكذب والتلفيق... فما يهمه هو أن يحكي ويحكي. تلك لذته، وبالتالي لذّتنا، وإذا ما سُقت لكم بعضاً من حكاياته ستقولون: ليس العتب عليه بل عليكم أنتم يا من تتيحون له الفرصة ليخبّص كل هذا التخبيص؟! لا ضير لدينا أبداً فسواء زوّر التاريخ أم قلب الدنيا يبقى همنا الأول حيازة الإمتاع من (خراريف) الرجل الجالس على عتبة بيته معيداً سرد الحكايات التي نعرفها وتعرفونها، ولكنْ على طريقته الخاصّة، تلك الطريقة التي تُختصر بأنّه يدخل في كلّ قصصه كبطل أساسيّ، لا يقلّ شأناً ولا أهميةً عن عنترة أو السّندباد أو زرقاء اليمامة!! بل إن أولئك الأبطال يأتونه لطلب النجدة والمعونة، فهو الشيخ الشهير بمروءته وشجاعته وكرمه، ولا سبيل لديه إلا الإغاثة مهما كلفه الأمر.
بين ما اخترعه من أحداث وتواريخ اخترع شخصية تابع يرافقه في كل الحكايات هو أحمد الدقز.. جاعلاً منه، دون أن يدري، رفيقاً دائماً وتابعاً مخلصاً، فأبو العبد في النهاية يقتدي بأبطال حكاياته، أو أنهم ليسوا بأفضل منه، فإذا كان في إحدى (السوالف) يحاكي صقر قريش فإنه يجعل الدقز مثل بدر رفيق الأمير الأموي الهارب، وإذا كان يحاكي الدونكيشوت فلا بد من منحه تابعه صفات وملامح التابع الخالد للفارس ذي الطلعة الحزينة سانشو نانثا.. يروي أبو العبد «قصة حصار الطيرة» فيقول منفلتاً من الزمان والمنطق: والله خطرة [أي: ذات مرّة] بقينا قاعدين في المضافة عم نشرب شاي.. وفجأة دحم أحمد الدقز وقال: «إلحق يا عمي أبو العبد... يوليوس قيصر حاصر الطيرة!».. فركضت وإذا بست سبع ملايين جندي... وطيارات وسيارات مثل النمل.. قلتلو: «دقز..»، قللي: «آه..».. قلتلو: «اجمعلي مجلس شيوخ الطيرة».. والله واجتمع المجلس بالمنزول وشرحنا الوضع وقلنا لهم: «هااااا.. شو بتشوفوا؟»، نطّ أبو قرمية وقال: «والله أنا بقول يا شيخ نحفر خندق حول الطيرة».. قلتلو: «مبلى.. لتكون مفكر حالك سلمان الفارسي؟؟ أقعد تشوف..»، نطّ دعزوق الإع وقال: «أنا رأيي يا شيخ نقاتلهم.. فكم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة؟؟».. قلتلو: «آخ.. ولك آخ.. ما هو أنتو مفكرين حالكوا الصحابة، ما نصكوا يا عرصات جاي سكران ع المجلس».. قالوا: «طيب شو رأيك إنته يا شيخ؟»، قلتلو: «تعْ لهون ولا دقز تشوف.. بتروح عند يوليوس قيصر وبتقلو: بيقلك عمي أبو العبد: دولابك دقْ ليخة.. إن ربحت بتوخذ الطيرة، وإن خسرت بتدرمل فوراً على بلادك».. قلّلي الدقز: «طيب يا عمي كيف بدي اترجملو كلمة: ليخة؟»، قلتلو: «بتوخذ معك قاروط [طفل يتيم]... وإن قلك شو: ليخة؟ بتخلع القاروط كفّ، وترفش ببطنو، وتبصق بوشّو.. وتقللو: هاي هيه الليخة».. والله ورجع الدقز بعد ساعتين.. قلنالو: «ها؟ شو صار معك؟»، قال: «قلتلو مثل ما قلتلي.. صفعت القاروط.. قام صفن هيك يوليوس قيصر وقلي: يلا go».. والله الصبح، تصبحوا بخير.. زعق الدقز عن أسوار الطيرة وقلي: «ألحق يا شيخ».. قلنالو: «شووووو؟»، قال: «جيش يوليوس قيصر انسحب».. قلتلو: «شو؟ مش شايف شي؟»، قللي: «ولا دعزوق [شخص] عالشّط!»، قلتلو: «ولك اتطلع منيح ليكون تاركين حصان خشبي كبير، ويقعدوا يعملوا فينا مثل ما عملوا بطروادة؟»، قللي: «فش إشي».. قلتلو: «أقيموا الأفراح»..
هذه القصة المسجّلة حرفياً نموذج يمكنكم أن تتأملوا من خلاله في شخصية أبي العبد الطيراوي من جهة، وفي طريقة السرد من جهة أخرى. ولعل طريقة السرد تحديداً تثير تساؤلات عدة: لم يبحث هذا الرجل المهزوم عن نصر، لا بل نصر كبير جداً؟ ألا تشبه حالات الخوارق التي تجسدها هكذا حكايات ما سبق وجسدته السير الشعبية التي ظهرت في فترات ظلام وقنوط؟؟ إلى أي حدّ هو بائس ليحلم بكل هذا العزّ؟؟ ما الذي جعله يفكّر بيوليوس قيصر.. ترى ألأن الأجنبي، من وجهة نظره، سبب الخراب؟؟ لم؟ لماذا؟ كيف؟ متى وأين؟؟
.... إلى آخر ما هنالك من علامات الاستفهام المضنية والشاقة..