«يوميات حميمة» لبول كلي: شمس تونس المملوءة بالوعود
لم يكونوا، على مدى تاريخ الفن التشكيلي، كثراً أولئك الرسامون الذين وجدوا، ذات لحظة من حياتهم، أن عليهم أن يرووا سيرة حياتهم كتابةً، مبررين فيها هذا التصرف أو ذاك، متحدثين عن الظروف التي قادتهم الى هذا الموقف أو ذلك التيار. فالفنان التشكيلي يرى عادة ان في إمكانه أن يقول كل شيء في أعماله نفسها، وأن الكلام المكتوب والمطبوع لن يمكنه ان يضيف الكثير.
ومع هذا لم يعدم تاريخ هذا الفن، رسامين ألفوا كتباً، تحدثوا فيها عن فنهم أو عن حياتهم أو مشاهداتهم، ومن هؤلاء كاندينسكي الذي ربما كان فريد نوعه في هذا المجال، إذ انه في كتاب شهير له «حول النزعة الروحية في الفن» وصل الى تحديد نظري لعمله، ومنهم فان غوغ ولو في رسائله الشهيرة الى أخيه. ومع هذا تبقى «يوميات حميمة» للرسام الألماني بول كلي، الأشهر بين اليوميات التي تركها رسام اوروبي في القرن العشرين، حتى وإن كنا نعرف ان هذه اليوميات لم تنشر خلال حياة كلي، بل كان ابنه فليكس كلي هو الذي نشرها للمرة الأولى في العام 1957، أي بعد سبعة عشر عاماً من رحيل الفنان.
ولعل السؤال الأول الذي يتبادر الى الذهن إزاء هذا العمل، لا يتعلق بالسبب الذي جعل الإبن ينتظر كل تلك السنوات قبل ان ينشر مذكرات والده، بمقدار ما يتعلق بالسبب الذي جعل كلي نفسه يوقف تدوين يومياته، في شكل مباغت في العام 1918، بعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، مع انه عاش 22 عاماً بعد ذلك. علماً أن الجزء الأخير من تلك اليوميات، كان أقرب الى أن يكون انطباعات حول الحرب نفسها، من دون خوض مفصل في تفاصيل حياة الفنان خلالها. ومن هنا، فإن «يوميات حميمة» لكلي، لا تغطي سوى القسم الأول من حياته، والسنوات الأولى من ممارسته الفن التشكيلي، بحيث تبدو أقرب الى أن تكون سرداً لسنوات التكوين، منها يوميات حقيقية. غير ان هذا لا ينقص من قيمتها، خصوصاً أن في صفحاتها ما يمكنه، حقاً، أن يفسر علاقة فن بول كلي التشكيلي بالموسيقى، وهي علاقة لا شك يحسّها المرء ما إن يتفرس في ألوان هذا الفنان وخطوطه. ومن ناحية ثانية نجد في صفحات هذه اليوميات فصولاً تروي الرحلة الشهيرة التي قام بها بول كلي، مع اثنين من رفاقه الفنانين وهما اوغوست ماكي ولويس مواييه، الى تونس في ربيع العام 1914، حيث نعرف ان تلك الرحلة التونسية مارست تأثيراً كبيراً في فن بول كلي مضفية اليه أبعاداً روحية وإسلامية وخطوطاً عربية كانت تدهش مشاهدي لوحاته على الدوام. وإذا تذكرنا هنا كيف ان الموسيقى والتكوينات الشرقية هما عنصران أساسيان في فن بول كلي، وعلى الأقل خلال مرحلة أساسية من حياته الفنية، يصبح في إمكاننا أن نفهم أهمية هذه «اليوميات».
بدأ بول كلي تدوين يومياته في العام 1899، حين كان في العشرين من عمره، ما يعني أنه واصل كتابتها طوال نحو عقدين من الزمن. وقد أتت في نهاية الأمر مؤلفة من أربعة أقسام، ويغطي نصفُ صفحاتها الأولى، العشرين عاماً الأولى من حياة بول كلي (1880 - 1900)، في احتفال بذكريات الطفولة أبدع قلم كلي في صوغه وفي إضفاء طابع حنون ومثير عليه، ولا سيما حين يكرس صفحات جيدة لوصف اولى اكتشافاته البصرية المثيرة، وللحديث عن الفتيات الصغيرات اللواتي كان يتعرف إليهن، ولحكاية بعض الأحداث الصغيرة التي ملأت سنواته الربيعية تلك. والأهم من هذا كله هو أن تلك الصفحات نفسها تكشف لنا كيف ان بول كلي، وهو ابن استاذ للموسيقى، كانت الموسيقى هي الفن الذي فتح عليه عينيه أول ما فتح. ومن هنا تشرّبت روحه الموسيقى تماماً خلال سنوات تكوينه، خصوصاً انه سرعان ما أتقن العزف على بعض الآلات ومنها آلة الكمان. ونحن نعرف، انطلاقاً من هذا، ان بول كلي سيظل حتى نهاية حياته مطبوعاً بذلك التفتح على الموسيقى، وأن لوحاته خلال المراحل الأكثر نضوجاً من حياته ستمتلئ بتعبيرات موسيقية حولّها الفنان الى تعبيرات بصرية. بعد ذلك وفي قسم تالٍ من اليوميات، وإذ يكون الفتى الحائر لسنوات بين الرسم والموسيقى، قد حسم أمره بعض الشيء في اتجاه الرسم، نراه يصف لنا سيرة العامين اللذين قضاهما في ميونيخ حيث التحق بأكاديميتها دارساً الرسم، وهما العامان اللذان كانا الأكثر حسماً في حياته، على ما يقول لنا هو نفسه، مضيفاً انه على رغم دراسته الصلبة هناك، بقيت لديه آثار حيرة وتردد «في شأن وسيلة التعبير التي سيلجأ اليها طوال حياته التالية»، خصوصاً ان الشعر الغنائي كان دخل طرفاً جديداً في حياته بتأثير من غرام سيشعر به إزاء عازفة بيانو شابة هي ليلي ستامف، وكان من نتاجاته قصيدة وحيدة كتبها خلال حياته بعنوان «ايفلين». وليلي ستامف ستكون هي التي سيتزوجها بعد ذلك بسنوات.
إثر ذلك وعلى مدى صفحات تالية نجدنا نعيش مع بول كلي عامي 1901 و1902 من حياته، وهما عامان قام خلالهما برحلة الى ايطاليا في رفقة صديق طفولته النحات هرمان هالر. وهنا يقول لنا كلي كيف ان اكتشاف ايطاليا، وبدايات التعامل مع الشمس والألوان الحية، وحيوية البشر، كانت أموراً جديدة بالنسبة اليه هو الآتي من صقيع الشمال وألوانه المحدودة. ذلك ان إيطاليا أعطته بسرعة مذاق البحر الأبيض المتوسط، محضّرة إياه بالتالي لرحلته التونسية بعد ذلك بسنوات عدة. وهذه الرحلة التونسية سنجد تفاصيلها في صفحات لاحقة، أي في القسم الثالث من اليوميات، وهو أطول الأقسام وأغناها، إذ انه يمتد من رحلة يقوم بها الرسام الى بيرن في سويسرا، الى تجنيده احتياطياً في الجيش الألماني في العام 1916. وخلال كل تلك السنوات كان بول كلي بدأ يصبح فناناً معروفاً، وانتقل مع زوجته للإقامة في ميونيخ، وبدأت تقام المعارض لأعماله، بدءاً من العام 1910، في بيرن أولاً، إذ لا ننسين هنا أن بول كلي، على رغم ألمانية أبيه، وجنسيته الألمانية هو نفسه، كان يعتبر سويسرياً بالولادة، ولكون امه سويسرية أيضاً. ومن هنا كان ثمة اهتمام سويسري دائم بكلي، يوازي الاهتمام الألماني به. أما هو فسيقول لنا لاحقاً، في يومياته بخاصة، انه في نهاية الأمر يعتبر نفسه ابن ألوان البحر الأبيض المتوسط. وهذا الواقع تفسره لنا الصفحات الجميلة التي كرسها للحديث عن علاقته بالشمس وألوانها، واكتشافه الطبيعة التونسية. غير ان هذا كله لم يأت إلا تالياً لتعرفه على جماعة «الفارس الأزرق» وارتباطه بكاندينسكي وفرانز مارك. واللافت ان صفحات هذا القسم التي توصلنا الى بداية سنوات الحرب العالمية الأولى تحفل بالحديث عن صراعات كلي الداخلية (وتأرجحه بين الفنون، في تواصل كان يعبر عنه في لوحاته، من دون أن يدرك هذا غالباً) كما عن صراعاته مع تجار الفن الذين يستغلون الفنانين وأعمالهم لبيع هذه الأعمال وتحقيق أرباح طائلة، أكثر مما تحفل بالحديث عن الحرب المنذرة ثم المندلعة. وهذا كله يجعل من هذا القسم صورة مفصلة للحياة الفنية في ذلك الحين، وكذلك لاختيارات كلي الفنية وصراعه مع ما كان تبقّى من تطلعات انطباعية... هذا الصراع الذي حسمته زيارته التونسية التي أضفت على فنه جديداً، سيواكب كل حياته وأعماله خلال بقية مسيرته كلها... ولعل العبارات التالية الواردة في الصفحة 926 من اليوميات قادرة على التعبير عن هذا: «ان الشمس هنا ذات قوة ساطعة، والنقاء المتدرج الألوان والطبقات فوق البلد كلها مملوءة بالوعود».
وبول كلي (1879 - 1940) ولد في قرية صغيرة غير بعيدة من بيرن في سويسرا، ليموت بعد ذلك بواحد وستين عاماً في لوكارنو في سويسرا أيضاً، قبل أيام قليلة من حصوله على الجنسية السويسرية التي كان يتطلع الى الحصول عليها بعدما غادر وطنه ألمانيا في العام 1933، تحت ضغط النازيين، هو الذي كان أقيم له معرض ضخم وتكريمي لمناسبة عامه الخمسين في قصر الأمير الامبراطوري في برلين، تتويجاً لمساره الفني الفريد من نوعه، والذي جعله واحداً من أكبر الرسامين في طول القرن العشرين وعرضه.