نجيب سرور... لسّه جوا القلب أمل
 سيد محمود سيد محمود

نجيب سرور... لسّه جوا القلب أمل

لا يُذكر اسم الشاعر والمسرحي المصري نجيب سرور (1932 ــ 1978) إلا مقروناً بالغضب. إنّه إحدى أبرز أيقونات الغضب في مصر التي أظهرت احتجاجها على النكسة بطريقتها الخاصة، اكتسبت سمة ملحمية وميلودرامية تليق بصاحبها الذي ولد في قرية إخطاب (محافظة الدقهلية).

لم تكن اخطاب تختلف عن غيرها من قرى مصر في ثلاثينيات القرن الماضي، لكنّ صاحب «البحر بيضحك ليه» حوّل آلام فلاحيها وسعيهم لكسب رزقهم إلى مادة فنية رافقته طوال حياته، وعكست تحولات وعيه باللعبة المسرحية وفضائها الدرامي.

عبر هذا المزج، قدّم فناً يصعب وصفه بالملتزم أو التحريضي. سمة روح ملحميّة يصعب تفاديها ونحن نقارب مسرح سرور الذي يمثل عموداً فقرياً في تجربته الإبداعية، في حين يبدو الشعر حديقة خلفية أو فضاءً لممارسة الاحتجاج أكثر من كونه ساحة للتجديد والابتكار. ولذلك بقي شعره موضوعاً للاستعمال في ساحات الصراع السياسي وأفقاً للتعبير عن احتدام الصراعات الطبقية.
وبسبب إصراره على التعامل مع الشعر في حدود الدور والوظيفة، رأى سرور في المسرح أرضاً خصبة لاختبار أفكاره. لذلك ترك دراسته الجامعية في كلية الحقوق، وقرر الالتحاق بالمعهد العالي للفنون المسرحية، ثم سافر في منحة لدراسة الإخراج المسرحي في الاتحاد السوفياتي من عام 1958 حتى عام 1973 حيث أعلن هناك تدريجاً ميله إلى الماركسية. في موسكو، كتب نجيب دراسات نقدية ومقالات ورسائل وقصائد نُشر بعضها في مجلات لبنانية كـ«الطريق» التي أعادت نشر مقالاته في كتب منها «رحلة في ثلاثية نجيب محفوظ» (دراسة طويلة كتبها عام 1958) و«أعمال شعرية عن الوطن والمنفى» (ديوان كتب قصائده في موسكو وبودابست بين 1959 و1963 ولم ينشر).
عودته إلى القاهرة مثلت مفصلاً في مسيرة المسرح المصري الذي كان يواجه أسئلته عن هوية الشكل أو القالب عبر ما كان يطرحه توفيق الحكيم، ويوسف إدريس، وشوقي عبد الحكيم من مقولات ونصوص تسعى إلى اختبار ما انتهوا اليه. غير أنّ سرور مضى إلى استنطاق الملاحم والسير الشعبية وتقديمها في قالب مسرحي. ووفقاً لهذه الرؤية، قدم «منين أجيب ناس»، و«ياسين وبهية»، و«قولوا لعين الشمس»، وكلها اتخذت من المعاناة الطبقية لفلاحي قريته مجالاً للصراع وطرح تصوراته عما كان النظام الناصري يقدّمه للناس. لذلك، بدا مسرحه ملتزماً، بالمعنى الذي جعل بريخت مثلاً أعلى ظلّّ لدى سرور طموحه في تمثيل تجربته وإضفاء نزعة تشيخوفية داخل النصوص التي انحازت إلى البطل الهامشي.
رغم لمعانه، ظلت معضلة سرور مع السلطات قائمة، لكنها تفاقمت إثر المعالجة التي قدمها لمجازر أيلول الأسود عام ١٩٧١ في مسرحيته «الذباب الأزرق». تدخلت الاستخبارات الأردنية لدى السلطات المصرية لإيقافها. منذ ذلك التاريخ، بدأت مواجهة جديدة بين الامن المصري ونجيب سرور انتهت بعزله وطرده من عمله ومحاصرته ومنعه من النشر، ثم اتهامه بالجنون! في هذه الفترة بالذات، ولدت معلقته الشهيرة «أميات» التي لا تزال ضمن أكثر نصوص الاحتجاج تداولاً، إذ كشف فيها تحالفات النظام الناصري وفضاء التواطؤ الذي رسم مجالاً لعلاقاته مع المثقفين. وحين مات نجيب سرور في مستشفى للأمراض العقلية أودعته فيه الاستخبارات المصرية، كان قد تحول الى أيقونة فاضحة للزمن العربي في عصور الثورة.

أشهر أعماله

في 1969، قدم نجيب سرور المسرحية النثرية «الكلمات المتقاطعة» التي تحولت إلى عمل تلفزيوني أخرجه جلال الشرقاوي، ثم أعاد إخراجها للمسرح شاكر عبد اللطيف. واستمر تألق هذا العمل الفني حتى 1996. وفي عام 1969، قدم المسرحية النثرية «الحكم قبل المداولة». اللافت أنّ أعماله الشعرية كتبها فرادى خلال فترات متباعدة ثم جمعها في دواوين مثل «التراجيديا الإنسانية» الذي كتب بعض قصائده في مصر عام 1952، وضمنه قصائد أخرى كتبها في موسكو قبل سفره إلى بودابست (أصدرتها «المصرية للتأليف» 1967) إضافة إلى «لزوم ما يلزم» الذي كتب قصائده في هنغاريا عام 1964 وصدرت عام 1975.


مثقف يختصر أعوام ما بعد النكسة


تثير رواية «سرور» (دار كتب خان) للكاتب طلال فيصل تساؤلات جمّة تتعلق بالبطل المركزي في الرواية وهو الشاعر والمسرحي المصري الراحل نجيب سرور، الذي عاش السنوات الأخيرة من حياته أياماً صعبة بسبب ما عاناه من اضطرابات نفسية، ازدادت مع زيارة أنور السادات إلى القدس عام ١٩٧٧.
صاحب «يا بهية وخبريني»، و«منين اجيب ناس»، و«بروتوكلات حكماء ريش»، و«ياسين وبهية» والنصّ الاحتجاجي الشهير «أميات» مات في مستشفى للامراض العقلية أودعته فيها الاستخبارات المصرية، لكنّه ظلّ للأجيال الشابة إحدى أبرز ايقونات الغضب. ويزيد من شغف القارئ بالرواية التي صدرت عن سرور لكون مؤلفها درس الطب النفسي.

نجيب سرور كما تناوله طلال فيصل نموذج لمثقف يختصر أعوام ما بعد هزيمة الـ 67، وكل انكساراته الشخصية أو الفنية هي ترجمة لحالة مصر في تلك الفترة. كان السؤال الأهم الذي راود طلال فيصل عند الكتابة عن سرور: أيهما أفضل للفنان، الصدام المباشر والخصومة الصريحة والتعبير العنيف عن أفكارك كما تجلّت في شخصية سرور، أم المداورة والمناورة والاحتفاظ بهذه الآراء والمواقف داخل أعمالك الفنية فحسب كتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ؟ يرى فيصل أنّ نجيب سرور هو التجسيد الأمثل لهذا السؤال بصداماته العنيفة وسخونة ودرامية حياته، وما كان لذلك من تأثير على إنتاجه الفنّي، سلباً أم إيجاباً. خلال عملية الكتابة التي استغرقت سنوات، اعتمد طلال فيصل على الأرشيف والمقالات الصحافية ومقابلات مع شخصيات عاصرت نجيب سرور وعرفته كناقد ومؤلف مسرحي ومخرج اتسمت أعماله بنظرة طليعية واشتغال نقدي على تيمات تراثية. هكذا، التقى فيصل زوجة سرور، وأبناءه، وتلاميذه، وزملاءه من الفنانين.
في الجزء الأخير من الرواية، نرافق الطبيب النفسي المسؤول عن نجيب سرور إلى رحلته مع الشاعر الراحل في «مصحة العباسية». لا يخفي فيصل تخوّفه من هذا الجزء، قائلاً «المشكلة أنّ نجيب نفسه كان يستخدم لهجة حادة جداً في عرض أفكاره وانتقاده للمثقفين في زمنه. قصيدته «أميات» مثال واضح. كذلك مَن يذكر كتابه العنيف «هكذا تكلّم جحا»، يعرف جيداً أنّه كان صريحاً وجارحاً في التعبير عن آرائه. لا يمكنك أن تتجاوز هذه الطريقة في الكتابة عنه أو الكتابة من داخل تجربته. في الرواية، نجد آراءً صادمة في أسماء حقيقية وبعضها لا يزال حيّاً. وليس ثمة طريقة للإفلات من ذلك. أنت تنقل عصراً كاملاً بالكتابة عن هذا الرجل، ولا يمكن التعبير عن ذلك من دون استعارة حدة الرجل أو استعارة تعبيراته الجارحة».
يأمل مؤلف «سرور» أن تسهم روايته في إعادة الرجل إلى الأذهان بعدما اختُزل للأسف في قصيدة «أميات»، داعياً الدولة إلى طبع أعماله الكاملة التي نشرت في التسعينيات ولم يعَد طبعها منذ ذلك الحين. يقول فيصل «الرجل ظُلم حياً ولا داعي إلى إتمام ظلمه ميتاً أيضاً».