إيلي والاّش.. رحيل المافياوي المختلف
نديم جرجوره نديم جرجوره

إيلي والاّش.. رحيل المافياوي المختلف

ليس غريباً على ممثلي أربعينيات القرن العشرين وخمسينياته تحديداً (ولاحقاً ربما) أن ترتبط إطلالاتهم الفنية الأولى بالمسرح الشكسبيري. هناك ما يشي باستحالة الانخراط الإبداعي في التمثيل خارج هذا المسرح وتقنياته وفضاءاته.

هناك ما يشي بأن "معمودية الدم والنار" تكتمل في المسرح المذكور، وبعدها تُصبح الانطلاقة أمتن وأحسن وأقوى، وإن تحوّلت إلى العالمين السينمائي والتلفزيوني. لا يعني هذا أن أولئك الممثلين يُحاصِرون أنفسهم وأداءاتهم باشتغال مسرحي بحت أمام الكاميرات السينمائية ـ التلفزيونية. أولئك الممثلون، أو معظمهم على الأقلّ، أتقنوا كيفية تحسين الأداء التمثيلي على خشبة المسرح أولاً، وعبر مسرحيات شكسبيرية ثانياً، قبل التوجّه إلى بلاتوهات السينما والتلفزيون، حيث تمكّنوا من تحويل تقنية الأداء السينمائي أساساً إلى ما هو أعمق من الوقوف على خشبة: تحريك الجسد جزء من اللعبة. كيفية التعبير والقول. النبرة. الحركات. التفاصيل الصغيرة. هذه أساسيات أدرك كثيرون امتلاكها الإبداعي بعد انصرافهم إلى السينما، من دون أن ينسوا براعة المسرح في صقل بداياتهم الأدائية، مضيفين على هذه البراعة مفردات السينما.

لم يكن ممكناً التوقّف عند رحيل الممثل الأميركي إيلي والاّش من دون الإشارة إلى ذلك. حضوره أمام كاميرا مخرجين كبار منبثقٌ من تمكّنه الأدائي على خشبات المسرح. حضوره هذا متميّز بتلك الخفّة في ترجمة معالم الشخصية وملامحها، من دون أن تعني الخفّة استسهالاً أو تغييباً لأي عمق درامي ـ جمالي مطلوب. الخفّة هنا تعني سهولة الأداء وبراعته، لا الادّعاء والتصنّع والمثابرة والاجتهاد المسطّح. المغويّ الذي أداره إيليا كازان وجون هيوستن مثلاً، هو نفسه المافياوي المرتبك والمُسامِح المبطّن، الظاهِرَين مع فرنسيس فورد كوبولا وجون ستروغر وسيرجيو ليوني. لعلّ أسماء المخرجين، ذوي الأساليب المختلفة في تحقيق أفلام محفورة في الذاكرة التاريخية للسينما الدولية، تكفي لتأكيد حُسن العلاقة الفنية بين ممثل قادم من "مسارح برودواي" و"أنطوان وكليوباترا" لشكسبير، من دون تناسي بعض أعمال تينيسي ويليامز، كـ"الوردة الموشومة" (1951) و"كامينو ريل" (1953)، إلى بلاتوهات سينمائية جعلت الصورة انعكاساً لمتاهات الأفراد، واضطرابات الأحوال. والأهمّ: انعكاس براعة الصورة السينمائية في صناعة الحكاية.

مسألتان أساسيتان طبعتا السيرة الحياتية لإيلي والاّش، الراحل في 24 حزيران 2014، هو المولود في 7 كانون الأول 1915 في نيويورك: تحوّله إلى "مثال" على مستوى الزواج في عالم الصناعة السينمائية، بفضل زواجه من الممثلة آن جاكسون على مدى 66 عاماً (اقترنا معاً في 5 آذار 1948)، وهذه بحدّ ذاتها حكاية خاصّة، لأن الغالبية الساحقة من العاملين في السينما "يُعانون" ارتباكات جمّة في مسائل الحياة اليومية والزواج والعلاقات. هناك أيضاً قصّة "نجاته" من "لعنة الموت" التي حلّت على "النجوم" الثلاثة الآخرين الذين شاركوه بطولة The Misfits (1961) لجون هيوستن: وفاة كلارك غايبل بعد وقت قليل جداً على انتهاء التصوير، ومارلين مونرو بعد أشهر قليلة على ذلك أيضاً (5 آب 1962)، ومونتغومري كليفت في 23 تموز 1966.

لكن هذا ليس كل شيء. أداؤه يقترب من كونه تدريباً على كيفية الوقوف أمام الكاميرا. المافياوي في "العرّاب 3" (1990) لكوبولا يوهم الآخرين بالتباس مواقفه وحراكه، قبل أن ينكشف خبثه، وهذا خبث جمالي متقن ومزدوج: خبثٌ على مستوى جمالية التمثيل، وخبثٌ على مستوى اللعبة "الحقيرة" التي مارسها دون ألتوبيلّو. "السبعة الكبار" (1960) لستروغر أيضاً. "الطيّب، الوحش والشرير" (1966) لليوني. اللائحة طويلة. النهاية معقودة على نمط آخر: "وول ستريت: المال لا ينام أبداً" (2010) لأوليفر ستون، والمشاركة في فيلم جماعي "نيويورك، أحبّك" (2010).

نيويورك؟ إنها المدينة التي وُلد فيها، وعاش فيها، ومات فيها قبل عامين اثنين على إتمامه قرناً من الزمن لحياة مليئة بالتناقضات والتحدّيات، وغنية بالاختبارات والمعاني.

 

المصدر: السفير