ليس إعلاماً بل قراراً سياسياً؟؟
عبّرت منظمات حقوقية أمريكية عن صدمتها من الخطوة التي قام بها «يوتيوب» مؤخراً، حيث محا دفعةً واحدة أكثر من 700 مقطع وثّقتها ثلاث من أبرز المنظمات الحقوقية الفلسطينية: «الحق»، و«الميزان»، و«المركز الفلسطيني لحقوق الإنسان»، وفقاً لتقرير مُوسّع نشرته مؤسسة The Intercept الأمريكية.
أكدت المحامية في «مركز الحقوق الدستورية»، كاثرين غالاغر، أنّ قرار شركة غوغل المالكة ليوتيوب «يسهم في إخفاء الأدلة على جرائم الحرب». وأنّ محو أرشيف المنظمات الفلسطينية الثلاث «يُسهّل إفلات إسرائيل من المساءلة» ويمنع الضحايا من إيصال صوتهم. وفي معرض ردها على تبرير شركة غوغل، بأنّ خطوته هذه جاءت «التزاماً بالعقوبات الأمريكية» التي فُرضت على هذه المنظمات بسبب تعاونها مع المحكمة الجنائية الدولية، أشارت المديرة التنفيذية لمؤسسة DAWN الحقوقية، سارة ويتسن، إلى أنّ القانون لا يعتبر مشاركة المعلومات والوثائق خرقاً للعقوبات.
لم يكن قرار «غوغل ويوتيوب» سوى تعبير عن سياسة واضحة وحجة هدفها محو الأرشيف الحقوقي الفلسطيني من الفضاء الرقمي، فمضمون الأرشيف تجاوز كونه «محتوى إعلامياً»، ليتحول إلى أدلة تُوثّق جرائم حرب قام بها الاحتلال، وتقدّم شهادات لأمهات ثكالى، وأطفال تعرضوا لأقصى درجات الوحشية، من القتل المباشر الى التجويع والنزوح والتشريد... وصحافيون اغتيلوا أمام الكاميرات، إضافة إلى التدمير الممنهج للمنازل والمستشفيات والمدارس وغيرها.
حرب الذاكرة
ثمة حرب منظمة على الذاكرة الفلسطينية لا تقلّ خطورة عن الحرب العسكرية، فـقد أدركت «إسرائيل» أنّ صور المجازر وشهادات وتقارير الإبادة تسربت إلى وعي العالم بسرعة غير مسبوقة، وأنّ سيطرتها على السردية تداعت، ولهذا تحاول الفوز بمعركة الهيمنة على الوعي وتوجيهه، معركة الإلغاء الافتراضية التي يمكن أن ترقى بأهدافها السياسية إلى أن تكون جزءاً من الإبادة عبر محاولات المحو المادي والجسدي، ومحو الذاكرة والأثر المعرفي.
فبعد أن علا صوت الضمير العالمي وحدد ما حدث في غزة ولا يزال من إبادة، بما يتطابق مع التقارير الأممية ومحكمة العدل الدولية التي وصفت قادة «إسرائيل» بمجرمي حرب وطلبتهم للعدالة. تدخّلت إدارة موقع «ويكيبيديا»، الموسوعة العالمية الأشهر، لوقف التعديل على صفحة «الإبادة في غزة»، وقام المؤسّس المشارك لـ «ويكيبيديا»، جيمي ويلز، بتصنيف صفحة «Gaza genocide» بأنها «منحازة ضد إسرائيل» وأنّها «لا تلتزم بالحياد» وتحتاج إلى «تصحيح فوري». وذهب أبعد من ذلك بوصفها «مثالاً صارخاً» على غياب الموضوعية.
تكمن المشكلة الرئيسية، حسب تصريحاته، في أنّ الصفحة «تقول إنّ إسرائيل ترتكب إبادة»، لكنّه يعتبر أنّ «هذا الادّعاء موضع خلاف شديد»! دون أن يشرح السيد ويلز الخلاف الشديد بين مَن ومَن؟ تساءلت التعليقات الغاضبة: «بين الأمم المتحدة، التي قالت بوضوح إنّ ما يحدث يرقى إلى الإبادة، وبين حكومة الاحتلال التي تنكر كلّ شيء؟ هل يصبح الإجماع الحقوقي الدولي مجرّد «رأي»، بينما تُعامل مواقف الحكومات التي تشارك في الحرب باعتبارها مصادر موازية؟».
ولم يكتفِ ويلز بتدخّله العلني، بل قدّم نسخة جاهزة
لما يعتبره افتتاحيةً «محايدة» تتضمّن الآتي: «حكومات ومنظمات وكيانات قانونية عدّة وصفت أو رفضت وصف ما يحدث في غزة بأنّه إبادة». تعيد هذه
الجملة تعريف الحياد باعتباره مسافةً متساويةً بين الجلّاد والضحية، وبين الأدلة والإنكار، وبين التقارير الدولية وتصريحات العلاقات العامة «الإسرائيلية».
ضجّ محرّرو «ويكيبيديا»، وكثير من متابعيها، أمام هذا الموقف، ووصفوه بأنّه «مُحبط» و«مُسيّس»، وشبّه أحدهم الموقف بالسخرية قائلاً: «لو اتّبعنا هذا المنطق، لكان علينا القول إنّ شكل الأرض ما يزال موضع نقاش». والرسالة السياسية واضحة هنا، فحين يقول العلماء والأمم المتحدة والمنظمات الحقوقية إنّ ما يحدث إبادة، وتصبح مهمّة منصة معرفية مثل «ويكيبيديا» إعادة كتابته ليوافق الرواية الإسرائيلية، بدلاً من توثيقه، تتحوّل الحقيقة إلى مادة قابلة للقصّ واللصق وفق المصالح السياسية.
اسكات صوت الحق
الحروب اليوم لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بالخوارزميات أيضاً. فقد أثار انهيار صورة «إسرائيل» الأخلاقية وجيشها في العالم أجمع، واتضاح الصورة الحقيقية لما يحدث فعلاً في فلسطين والتي نتج عنها تحولات عميقة في وعي الشعوب للسردية الأحادية التي اعتاد الاحتلال تسويقها، غضباً شديداً في الأوساط الصهيونية وداعميها، أسفرت عن محاولات إعادة السيطرة على الفضاء الرقمي وإسكات صوت الحق، فما حدث لم يكن مجرّد حذف مقاطع وقنوات، بل محاولة لإزالة ذاكرة كاملة تتضمّن تحقيقات، وشهادات، ومقاطع أرشيفية نادرة، وتوثيقات لا بديل عنها، بعضها بقي محفوظاً على الإنترنت عبر منصّات أخرى، ومع ذلك بات معظمها مهدّداً بالاختفاء، في ظلّ تواطؤ المنصّات الغربية والأمريكية وسياساتها الهادفة لحماية «إسرائيل» من المساءلة الدولية. ثمة فيديو لنفتالي بينيت رئيس وزراء «إسرائيل» السابق يؤكد فيه أن «إسرائيل» خصصت يوماً تعليمياً لمحرري ويكيبيديا، وأن «الهدف منه هو تعليم الناس كيفية التحرير في ويكيبيديا المصدر الأول للمعلومات في العالم، فمثلاً إذا بحث أحدهم عن أسطول غزة، نريد أن نكون الأشخاص الذين يؤثرون على ما يكتب هناك، لضمان توازنه وطابعه الصهيوني».
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1251
إيمان الأحمد