إنستغرام كفقاعة ثقافية لاقتصادٍ بلا إنتاج حقيقي (1)
برونا فراسكولا برونا فراسكولا

إنستغرام كفقاعة ثقافية لاقتصادٍ بلا إنتاج حقيقي (1)

يمثل إنستغرام نموذجاً اقتصادياً جديداً يستثمر في نوعٍ خاص من السلع الثقافية. حيث يمكن لمؤثّريه جني المليارات دون أن يجعلوا أيَّ دولة أكثر تطوراً أو ثراءً أو حكمة. فشتّان ما بين إنفاق المال على شراء ثلّاجة أو سيّارة أو جرّار زراعي، وإنفاق المال بناءً على نصيحة مدرِّبة «أتيكيت» أو على مكمِّلٍ غذائي «سحري»، أو ما شابه.

تعريب وإعداد: ياسمين دمشقي

إذا كانت الثلاجة والسيارة والجرار تمثل اقتصاداً صناعياً، وتُحدِث في حدّ ذاتها تحسُّناً موضوعياً في جودة الحياة أو الإنتاجية، فإنّ نشاطات أنواع معيّنة ممن يمتهنون ما بات يعرف بـ«التدريب على الحياة» (لايف كوتش) لا يتطلب سوى «اللُّعاب» والثرثرة. وحتى عندما يستعمل إنستغرام للترويج إلى سلع صناعية ومنتوجات، سواء المكملات الغذائية وصولاً إلى الأجهزة الكهربائية والحواسيب، فغالباً ما لا يخلق وظائف جديدة من نمط إنتاجي، بل هي ضمن الوساطة التجارية والسمسرة، والسلع التي تطلّبت إنتاجاً حقيقياً التي يجري الترويج لها غالباً ما تكون قد استُوردت بمعظمها من الصين. ويمكن القول إنّ هذا التطبيق الأمريكي (إنستغرام) هو الإعلانُ المبوَّب الأبرز في اقتصادٍ مُنخفضٍ التصنيع، وفيه تُعامَل عمليات الاحتيال والمخطَّطات الهرمية كأمورٍ طبيعيةٍ وعادية.

سواء في الولايات المتحدة أو في الصين، تتداخل شركات التكنولوجيا الكبرى مع الحكومة. ولكن في هذا الصدد، يكمن الاختلاف الرئيسي بين الولايات المتحدة والصين في أنه في الولايات المتحدة لا نستطيع معرفة من يتحكم بمن (الشركات أم الحكومة)، بينما في الصين نعلم جيداً أن الدولة هي التي تتحكم في الشركات. الولايات المتحدة بلدٌ يستطيع فيها رجل مثل روكفلر شراء جميع آبار النفط التي يريدها، ثم يرعى استخبارات الحكومة. يُفهم هذا النقص في القيود الحكومية على سلطة المال الخاص على أنه «حرية»، وكذلك في نظر أتباع النزعة الأمريكية. أما نقيض ذلك، فيُفهم على أنه «ديكتاتورية».

كان مارك زوكربيرغ منخرطاً بعمق في الدولة العميقة، ومع انتخاب ترامب، تبنى أسلوب إيلون ماسك. قامت شركة فيسبوك، التي أسسها زوكربيرغ، بشراء إنستغرام عام 2012 وواتساب عام 2014. وفي عام 2021، خضعت شركة فيسبوك لتغيير علامتها التجارية، وأصبحت تُعرف باسم «منصّات ميتا». وهي تمتلك فيسبوك وإنستغرام وواتساب، من بين شركات أخرى.

إذا كان فيسبوك في منتصف العقد الثاني من القرن الحادي والعشرين، شبكة التواصل الاجتماعي للمظاهرات والثورات الملونة، فإنّ إنستغرام، بعد أن اشتراه زوكربيرغ، تغير كثيراً ليصبح موقعاً ضخماً للإعلانات المبوَّبة، حيث يطرق المؤثرون أبواب المستخدمين لبيع البضائع.

تاريخ الإنستغرام

أنشأ كيفن سيستروم ومايك كريغر تطبيق إنستغرام، وأُطلق في تشرين الأول 2010، وكان متاحاً فقط لأجهزة آيفون. ونما التطبيق بسرعة كبيرة، إذ تزامن إطلاقه مع إطلاق هاتف آيفون بكاميرا فائقة. في ذلك الوقت، كانت منصة التواصل الاجتماعي الرئيسية في الولايات المتحدة هي فيسبوك، المملوكة لزوكربيرغ. اشترى زوكربيرغ إنستغرام في نيسان 2012 مقابل مليار دولار. وبعدها أصبح إنستغرام متاحاً لنظام أندرويد، نظام التشغيل الرئيسي للهواتف المحمولة الذي تملكه غوغل.

قبل استحواذ زوكربيرغ، كان إنستغرام منصة تواصل اجتماعي مختلفة تماماً؛ لم يكن يتضمن فيديوهات أو قصصاً، ناهيك عن المؤثرين. على حدّ ما أذكر آنذاك، كان إنستغرام منصةً ينشر فيها الشباب العصريون صوراً للقطط والكتب والقهوة ولوحاتٍ فنّية، إلخ، ليظهروا كأذكياء أو حسّاسين. كان الاختلاف يكمن في طابع الصور القديمة، الذي جسّده كلٌّ من الشكل المربع والفلاتر. كان هدف إنستغرام أن يكون منصة تواصل اجتماعي للصور لمستخدمي آيفون. لذا، إذا كان إنستغرام يُستخدم اليوم حتى من قِبل السيدات المسنات ومجالس المدن الصغيرة في البرازيل، فذلك لأن زوكربيرغ غيَّر المنصة كثيراً. كان أحد التغييرات إنشاء قسم تسويق وبيع الإعلانات.

التسويق على طريقة أوباما

في عام 1999، نشر رجل الأعمال والمُعلِن سيث جودين كتاب «التسويق بالترخيص: تحويل الغرباء إلى أصدقاء، والأصدقاء إلى عملاء». وحملت أوراق اعتماده مؤهلات نائب رئيس التسويق المباشر في شركة «ياهو»!

عنوان الكتاب واضحٌ بذاته، وكان الهدف منه إيجاد حلٍّ لزوال التسويق التقليدي. لم يعد الناس قادرين على الانتباه لإعلانات التلفزيون، وملحقات المجلات، واللوحات الإعلانية، والملصقات. ونتيجةً لذلك، أهدرت الشركات أموالها على تسويقٍ غير فعّال، واحتاجت إلى حلٍّ جديد. يُطلق جودين على هذا التسويق اسم «التسويق المُقاطِع»؛ لأنّ الإعلان يعترِض أو «يُقاطِع» العميلَ المُحتمل الذي اعتاد تجاهل الإعلان التقليدي، ويقترح إنشاء تسويقٍ قائم على الإذن، أيْ يعتمد على موافقة المستهلك على عرض المنتجات عليه. فبمجرد أن يصبح البائعُ صديقاً لك، سيتمكّن من لفت انتباهك لإعلاناته. ولتحقيق ذلك، لا بدّ من إنشاء «هياكل الإذن«.

اكتسب هذا المصطلح شهرةً سياسيةً مفاجئةً بفضل استخدام أوباما له. وقد استخدمه أوباما لأن مستشارته الاستراتيجية، أكسلرود، أصبحت خبيرةً في انتخاب السياسيين السود باستخدام هذه الاستراتيجية التسويقية المطَّبَقة في السياسة.

يرى سيث جودين أن على «الصديق» ألا يكتفي بالموافقة على الإعلان، بل أن ينتظره بفارغ الصبر، فهو يُحب البائع ويثق به. علاوة على ذلك، يعتقد جودين أن المستهلك اليوم لديه بالفعل علاماته التجارية المفضَّلة ولا يُبالي بالجودة، لذا فإن الأهم هو إيجاد سوق مُتخصص عبر الوسائل الرقمية بدلاً من الظهور على التلفزيون لإطلاق منتج جديد لشخص لا يُنصِت، وحتى لو فعل، فهو يمتلك علامته التجارية المُفضَّلة. نقطة أخرى هي أن البضائع قد تطورت بالفعل إلى أقصى حد، ولن يتمكن أحد من صنع قميص بتقنية مُبتكرة تماماً تُجبر المستهلك على تغيير علامته التجارية.

لم ينضم غودين إلى ياهو فجأةً، بل امتلك شركةً رائدةً في مجال التسويق الرقمي (يويوداين) وباعها إلى ياهو، حيث عمل فيها لاحقاً. وبناءً على ذلك، نفهم أن شخصية المؤثِّر على إنستغرام قد ابتُكِرَت قبل أكثر من عشر سنوات من اختراع إنستغرام نفسه.

انعكاس للركود؟

هل صحيحٌ أن تسويقَ إنستغرام يعكسُ أزمةً اقتصاديةً في الولايات المتحدة؟ فالافتراضُ السائدُ هو انعدامُ الابتكارِ وعدمُ أهميةِ الجودة.

يمكن وصف إنستغرام بأنه منصة ضخمة للمخططات الهرمية وعمليات الاحتيال. ففيه يتكاثر الذين لا يبيعون أي شيء ذي صلة بالنمو الحقيقي. يُظهر المؤثِّرون (الإنفلونسرز) حياةً رائعةً ويُعطون متابعيهم انطباعاً بأنهم عند شراء المنتج المناسب سيحظون بالجمال والحب وحتى الشهرة. فلا عجب أن يكون إنستغرام ناقلاً رئيسياً للأمراض النفسية لدى كثير من المراهقين أو الشباب من الجنسين، الذين قد يلجأون إلى البحث عن حلول «سحرية» لمشاكلهم العاطفية.

لا أعلم إن كان تراجع الصناعة قد ولّد اعتماداً على هذا النوع من الأسواق المفترِسة، أم أن هذا النوع من الأسواق المفترسة يُولّد تراجعاً في الصناعة، إذ إنَّ أحدهما يُعزز الآخر. لكن المؤكَّد هو أنه إذا كانت الولايات المتحدة تُقدّر هذه المنصة إلى هذه الدرجة، فإن اقتصادها لا يتمتع بمستقبل مشرق، لأنه رهانٌ على اقتصادٍ غير منتج يُضرّ بالمستهلكين أنفسهم.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1240
آخر تعديل على الأحد, 24 آب/أغسطس 2025 21:45