تحطيم الذاكرة (والموقف اليومي)

تحطيم الذاكرة (والموقف اليومي)

يتكوّن الوعي الاجتماعي من خلال التراكم، إذ مرت البشرية في تاريخها الطويل بسلسلة من التجارب التي أغنت على الدوام وعي الإنسان لذاته، وارتقت به إلى مستوى أعلى من القدرة على التفاعل مع الوسط الطبيعي والاجتماعي، على طريق الحفاظ على النوع، وتأمين حاجاته التي تزداد طرداً مع تطور الوعي.

الوعي الاجتماعي الجمعي وعي ارتقائي بطبيعته، وهو عملية متكاملة تقوم على أساس التفاعل ما بين الماضي والحاضر والمستقبل، كيمياء هذه الثلاثية هو أحد شروط التطور الموضوعي للوعي، دون ذلك لايمكن إنتاج أي قيمة مضافة، ولا يمكن إنجاز اي شيء جديد.

من أحد أهم مظاهر عالم اليوم هو الحرب المنظمة على الذاكرة الجمعية وتحطيمها، أوتهميشها، وقطع مسار تطور الوعي الاجتماعي، فوسط الكمّ المتلاحق للأحداث، والدفق المعلوماتي، ونمط الاستهلاك السائد سرعان ما ينسى الفرد ما حدث له، ومعه، ومن؟ ولماذا؟ وتبدو حياته وكأنها مطاردة فاشلة وراء حقيقة ضائعة يظل يلهث وراءها دون أن يدركها، حتى يجد نفسه عاجزاً حائراً وقلقاً على الدوام.

الحرب على الذاكرة هي أحد أدوات صياغة الوعي بما يناسب مصالح قوى الهيمنة التقليدية في شل فعالية القوى الاجتماعية، وبالتالي التحكم بالإرادة الجمعيّة ودفعها بالاتجاه الذي تريده تلك القوى، وذلك من خلال فرض نمط من (الموقف اليومي) بالأحداث التي تمر بالإنسان.

الموقف اليومي

نقصد بالموقف اليومي هنا، هو ذاك الذي ينطلق من وقائع اللحظة فقط، والواقع من حيث كونه ساكناً، وقطعاً ميكانيكياً مع التاريخ وتجاربه أو تشويه لها، وفي الوقت نفسه تخبط في اتجاه السير وتشوش في تحديد الهدف، وهو (الموقف اليومي) يأتي غالباً كرد فعل مباشر وسطحي على ما هو سائد، ويقدم اجابات غارقة في البساطة على أسئلة شائكة ومعقدة، تماشياً مع، وانسياقاً وراء الحركة العفوية للجماهير، أو اسثماراً فيها، وهو موقف يتسم بالعاطفية والانفعال والذاتية والانتهازية غالباً.

الموقف اليومي ربما يكون مفهوماً ومبرراً عندما يتبناه العامّة، فالإنسان العادي يتحدد وعيه من خلال الملموس، أما النخب السياسية والثقافية والأحزاب خصوصاً، فمن المفروض أن تعمل وفق رؤى وبرامج وبأهداف محددة، وتعمل على تأمين الأدوات والحوامل الاجتماعية للسير باتجاه الهدف المنشود، ذلك هو دورها الوظيفي دون ذلك لا مبرر لوجودها، وتصبح جزءاً من المشكلة بدل أن تكون أداة حل.

الانتقائية

الموقف اليومي انتقائي بطبيعته، يأخذ من الماضي ما يبرر ويشرعن وجوده، ويتجاهل من التاريخ الحديث والقديم ما يتناقض مع سردياته... فالصراع الدائر هو استمرار لصراع منذ 1400 عام، ولكي يرسخ هذه السردية يصبح ديدنه البرهان على أن الصراع الراهن هو صراع طائفي، ولأن الصراع طائفي فإن ما حدث في سورية بعد 8 ديسمبر هو انتصار طائفة على أخرى، تزوير التاريخ واستحضاره هنا، هو أحد ادوات العبث بالحاضر، وانتقاء هذه الجزئية من التاريخ التي لم تكن إلا جزءاً من سياقات الصراع على السلطة والنفوذ والثروة، هو أحد مسارات ترسيخ وتعميم تلك الصورة النمطية عن ثقافة شعوب الشرق وعجزها عن إدارة شؤونها، وعدم قدرتها على التعايش، وبالتالي حاجتها إلى الوصاية.

الشعبوية

الموقف اليومي شعبوي بالضرورة، فلأنه يتناقض مع المنطق والعقل لا بد من محاكاة الغرائز، فهذه الأخيرة شرط وجود الخطاب الشعبوي ومن خلاله يكوّن مجاله الحيوي، وفعاليته ويؤمن أسباب استمراره.

الشعبوية مفرخة تشوّهات الوعي الاجتماعي، تنتج كل يوم مساراً جديداً للتشويه، وتتحول في ظل دور الإعلام الرقمي إلى قوة دفع ذاتي، قادرة على استيلاد مبررات استمرارها إلى أن يشاء الله، وفرض سياسة إدارة الأزمات دون حلها.

الإقصائية

الوعي اليومي إقصائي من حيث البنية والتكوين، يحاول أن يقصي كل ما عداه، يتأفف من الوعي التاريخي والقراءة التحليلية للأحداث، ويجد فيها تنظيراً لا جدوى منه، يغطي ويحجب القراءات العقلانية الحيادية ويشوش عليها، لابل يبحث عما يشبهه لدى الخصم المفترض ويتذرع به حتى يبرر وجوده.

التثاقف

أخطر نماذج الموقف اليومي هو ذلك المتثاقف الذي يمتلك كمّاً من المعارف ويسوّقها بما يمتلك من قوة البلاغة، وبديع الصياغة، والاشتغال على اللغة وتطويعها، ولغة جسد، ويوظفها لترويج الهراء الطائفي أو الديني، قادر على أن يقول الشيء وضده في المقالة الواحدة، أو الإطلالة الإعلامية الواحدة، يتلبرل مرة، ويتمركس مرة، وقد يتأسلم أيضاً، وربما يطرح قضايا مشروعة، ولكن دون أن يقدم إجابات منطقية وعقلانية.

لجم السعار الطائفي

وإذا أخذنا الخطاب الطائفي كنموذج من الموقف اليومي الذي لا بد من مواجهته في اللحظة الراهنة، ينبغي عدم الاقتصار على القراءة التحليلية التي تأخذ طابع التجريد أحياناً، بل الانطلاق من حاجة الناس الملحة إلى الأمان، من خلال ربطها بالهدف النهائي أي الخروج من الدوامة الراهنة، الضرورة تقتضي تحريك وتنشيط ما يمكن من خلايا المجتمع ضد هذه الظاهرة الطارئة والمقحمة على وعي السوريين، إن أغنية لسميح شقير تتضامن مع ضحايا مجازر الساحل يمكن أن تلعب دور الداعية والمحرّض، أكثر من بيان سياسي، ولا بد أيضاً من إبراز وتعميم تلك الأصوات السورية غير القليلة التي تجاهر برفض الاستفزازات والممارسات الطائفية، من رجال دين وساسة وكتاب وإعلاميين، وبالإضافة إلى ذلك فإن التاريخ السوري الحديث زاخر بالتجارب والأحداث التي تفنّد الصراع على أساس الانتماء الطائفي.

وبعد ... لا يمكن فهم تعقيدات الراهن السوري، إلا من خلال فهم مقدماته، أي الأسباب الحقيقية وبأبعادها الاقتصادية – الاجتماعية والسياسية والثقافية، ولا يمكن الخروج من متاهة الأزمة إلا من خلال تحديد صحيح للهدف، وتسمية القوى الاجتماعية التي أسست للتأزيم، وساهمت وتساهم به ولكن كل ذلك وعلى أهميته لايكفي دون تأمين الأدوات..

الأداة الحقيقية الوحيدة هم السوريون أنفسهم، اي تلك الكتلة الجماهيرية القادرة على التأثير في مسار الأحداث.

المحور الذي تدور حوله كل مؤثرات الأزمة السورية هو تغييب الشعب السوري، وشل فعاليته بعد تفشي العسكرة وتشوه الصراع، وعليه فان شرط حلها هو إعادة هذا الحصان إلى مضمار السباق، من خلال التعبئة الشعبية وذلك لا يكون من جهة الخطاب السياسي إلا من خلال ربط وقائع اللحظة مع مقدماتها ونتائجها عند صياغة الموقف والخطاب السياسي.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1226