«الشعراء الملعونون» لفيرلين: الشعر للذين يفهمونه فقط
يبدو من الصعب جداً على من يقرأ في أيامنا هذه أشعار الفرنسي فيرلين، أو حتى أن يطلع على سيرة حياته ومساره الشعري، أن يتصور أنه جلس ذات يوم ليكتب... دراسة. فكل شيء في شعر فيرلين وحياته، وطبعاً في الصورة السائدة عنه منذ قرن ونيف، يجعل الفوضى تحيط به وتعيش متداخلة في حياته كما في أفكاره وتبدلاته اليومية، بحيث قيل عنه دائماً إنه لا يصلح إلا للشعر والشراب.
ومع هذا «فعلها» الشاعر وكتب تلك الدراسة التي، ما إن نقرأ عنوانها، حتى تختفي كل تحفظاتنا عن أن يكون هو مؤلفها: «الشعراء الملعونون». بل إن فيرلين، بعدما نشر هذه «الدراسة» للمرة الأولى في المجلة الطليعية «لوتيس» التي كان يديرها الناقد ليو تريزينيك، وكان ذلك في عام 1883، عاد في العام التالي ونشرها مستقلة في كتاب. وهو كتاب عاد ونشر طبعة جديدة منه في عام 1888. واللافت أن هؤلاء الشعراء الملعونين، كانوا في المجلة، ثم في الطبعة الأولى من الكتاب، ثلاثة، ثم ما لبث عددهم أن تضاعف ليصبحوا ستة شعراء في الطبعة الثانية. أولاً كانوا تريستان كوربيار، وريمبو ومالارميه. بعد ذلك، إذ تضاعف العدد أضاف فيرلين إليهم مارسلين ديبور فالمور، وفيلييه دي ليل آدام - الذي سيعرف لاحقاً بنثره المرعب أكثر مما بشعره الغريب - ثم فيرلين نفسه الذي حضر هذه المرة بقوة، بعدما كان غائباً في المرة الأولى.
ولكن، ما الذي أراد فيرلين أن يقوله من خلال إطلاقه صفة ملعونين على أصدقائه الشعراء كما على نفسه، في ذلك الحين؟ ببساطة كان يريد أن يقول إنهم هم الشعراء الحقيقيون الذين تحل اللعنة عليهم من لدن كل أنواع الامتثاليين، أي الذين لا علاقة لهم بالشعر ولا يفهمونه. إنهم، إذاً، ملعونون لأنهم الأفضل، ولأنهم أصحاب الشعر بالمطلق (بل إنه لم يتردد في أن يسميهم في مقدمة كتابه «الشعراء المطلقون»). هنا إذ راح فيرلين يتحدث في نصّه عن هؤلاء الشعراء، لم يكن مبالياً على الإطلاق بما إذا كانوا معروفين أو مجهولين في زمنهم أو من جانب معاصريهم. من هنا، إذ يؤكد شاعرنا الناثر، أن كوربيار، قد يصح أن يؤخذ عليه تفاوت وعدم انتظام في كتابته الشعر «ما جعل كثراً لا يعيرون وجوده أدنى التفات»، فإنه سرعان ما يضيف أن كوربيار، مع هذا - وربما لهذا بالتحديد - موجود «بقوة، وهو شاعر كبير وحقيقي، وجد من لحم وعظم ومن لغة... ولا يزال موجوداً». والدليل على هذا، شعره نفسه في الدرجة الأولى، ثم تجاهل الجموع له في الدرجة الثانية، فهذه اللعنة، التي اسمها تجاهل الجموع أو جهلهم، هي نعمة بالنسبة إلى هذا الشاعر. أما ريمبو، فإن فيرلين يقول إن واحدة من أكبر سعادات حياته، كانت تعرّفه إليه، وهو بعد هذا التصريح المملوء بتواضع لم يكن معهوداً منه، هو الذي كان حين نشر كتابه هذا، في طبعته الثانية الكاملة، معروفاً أكثر من ريمبو بكثير، بات مقرباً جداً من زميله. المهم أن فيرلين يتحدث هنا بحماسة فائقة عن ريمبو محيياً فيه روحه وعقله وقلبه «المنتمين إلى أعلى درجات النزعة الإنسانية»، إضافة الى «النعمة المعطاة له» والقوة والفصاحة المطلقة... وكل تلك المزايا «التي لا يكف عن إنكارها أولئك التقليديون، ضيقو الأفق»، من أنصار النزعة الطبيعية الذين كانت السيطرة لهم قبل العام 1883.
بعد ريمبو يأتي دور مالارميه حيث يبدأ فيرلين باستعادة التقريظ الذي كان أسبغه عليه في كتاب سابق له هو «رحلة فرنسي في فرنسا» كان صدر في عام 1880. ما يعني أن فيرلين لم يبدل منذ ذلك الحين رأيه بمالارميه الذي كان في النص السابق قد قال عنه إنه «دائماً مشغول البال بالجمال، إلى درجة أنه اعتاد أن يرى في الوضوح فضيلة ثانوية الأهمية» بالنسبة إلى فيرلين، ها هو هنا يؤكد أن مالارميه لم يكن - ولم يكن عليه أن - يهتم بكتابة الشعر لكي يفهمه خلق الله أجمعين. حسبه أنه كان يكتب لكي يفهمه الرهفاء إذ كان هو - أي مالارميه - في مقدمهم. فالشعر، في رأيه، لا يكتب إلا من أجل هؤلاء الذين يمثل الشعر بالنسبة إليهم حياة موازية، لا مجرد تفسير للحياة أو تبرير لأي شيء على الإطلاق. فإذا عجز المرء عن فهم هذا الجانب من علاقة مالارميه بالشعر، عليه، ليس فقط أن يكف عن قراءة مالارميه، بل أن يكف من فوره عن قراءة الشعر، أي شعر، والحديث عنه. «حيث إن دخول المرء في جوانيّة شعر مالارميه هو شرط الشعر الوحيد، ومبرر وجود الشعر»...
على هذا النحو إذاً يتابع فيرلين بقية نصوص هذا الكتاب، من دون أن يهمه ما إذا كان ما فيه يرضي بقية الشعراء أو بقية النقاد. فهو لم يضع كتابه ليرضي أحداً، ولا حتى لكي يقرأه أي جمهور عريض. وضع كتابه ليقول من خلاله، ومن خلال الشعراء الذين يتحدث عنهم فيه، قولاً فصلاً في ماهية الشعر، وحياة الشعر. الشعر بالمعنى المطلق للكلمة، بالمعنى الذي لا يفهمه العامة ولا يتسرب إلى دواخلهم. ولأنه كذلك، لأن الشعر ليس قادراً على التسرب إلى داخل عقول البشر العاديين وأفئدتهم وقلوبهم، يكون رد فعل هؤلاء الوحيد، أن يلعنوا الشعر، كل الشعر، لأن أي شيء عدا هذا الشعر الذي يكتب عنه، ليس شعراً. بالتالي، يصبح هؤلاء الشعراء - وهو طبعاً في جملتهم - شعراء ملعونين، بحيث تتخذ كلمة ملعون هنا معنى غير معناها المتوافق عليه.
طبعاً، لسنا في حاجة إلى أن نذكّر هنا بكم أن هذا النص الفيرليني، أثار ثائرة شعراء ونقاد كثر في ذلك الزمن الذي كانت الصراعات فائقة الاحتدام بين الحديثين والقدامى، من دون أن يكون ثمة مجال للوصول إلى أي توافق. كان كل من الفريقين يرى أن مهمته ليست فهم الآخر، بل إلغاؤه. ومن نافل القول هنا أيضاً، إن دراسة فيرلين هذه راحت تتخذ منذ صدرت، أهمية فائقة في تاريخ الأدب بعامة، والشعر بخاصة. وليس فقط بسبب استفزازية نصها وجدّة موضوعها، بل كذلك لأن فيرلين كان، عند صدورها للمرة الأولى في عام 1883، قد بدأ يُعرف على نطاق لا بأس به في الأوساط الثقافية والشعرية الفرنسية... وفي المقابل كان أحد بالكاد سمع بأسماء مالارميه وكوربيار ولا سيما ريمبو، بحيث إن قصائد هذا الأخير، ومنها «الحروف الصوتية» و «المركب الثمل»، التي ذكرها فيرلين لدعم آرائه، لم تكن معروفة، ما جعل نص هذا الأخير يكشفها للمرة الأولى على نطاق واسع. وهو ما عاد وعززه، بعد عام كتاب «على العكس» الذي صدر للكاتب هويسمان، والذي جعل من أعمال كوربيار ومالارميه وفيرلين، نصوصاً مفضلة بالنسبة إلى بطل الكتاب المدعو ديس إيسينيتس. أما إذا كان كثر سيلاحظون لاحقاً غياب ذكر ريمبو عن هذا الكتاب، فإن هويسمان سيشرح الأمر لاحقاً، بأن قصائد ريمبو لم تكن قد نشرت بعد.
مهما يكن من أمر، إذا كان كتاب فيرلين «الشعراء الملعونون» قد أطلق زوبعة وتياراً في الحياة الشعرية الفرنسية، والعالمية بعد ذلك، فإن «الفضل» يعود إليه كذلك في بدء الحديث عن تلك النزعة «الانحطاطية» التي بها سيرتبط اسم النزعة الرمزية منذ ذلك الحين. أما صاحب الكتاب بول - ماري فيرلين (1844 - 1896)، فإنه كان حين أصدر كتابه، معروفاً على نطاق لا بأس به في الحلقات الشعرية والثقافية الفرنسية، هو الذي كان قد بدأ ينشر أشعاره في صحيفة البارناسيين منذ عام 1866، لكنه منذ عام 1871، وقع تحت تأثير ريمبو، في علاقة وصلت إلى ذروتها حين أطلق فيرلين النار على ريمبو فجرحه، ما جرّ الأول إلى السجن. ولئن كان «الشعراء الملعونون» أشهر أعمال فيرلين، فإن الأدب العالمي يدين له بأعمال أخرى مثل «رومانسيات من دون كلام» و «في الماضي ومسبقاً» وغيرها.
المصدر: الحياة