آباء الجلاء العظيم في مواجهة الحزب القائد
هل ناضل آباء الجلاء من أجل التعددية السياسية خلال كفاحهم لتحرير سورية من الاحتلال الأجنبي؟ ومَن الذي فرضَ على الشعب السوري وصفة الحزب الواحد ومَنَعَ سورية التعدُّدية التي أرادها السوريون خلال نضالهم الطويل؟
سنقدم في هذا المقال صورة عن برنامج مؤسِّسي الوطنية السورية، الذي حان وقته، في مقابل برنامج وصفة الحزب القائد الذي يسير إلى مكانه في المتحف. وبكلمة أخرى: هو صراع بين تيارين تشكَّلا خلال التاريخ السوري الطويل، ويضمُّ كلا التيارين أحزاباً عديدة.
السوريّون والتعدُّدية السياسية
خلال أكثر من 100 عام من التاريخ السوري المعاصر، تبلورت من ضمن الأوضاع السياسية المتغيرة في البلاد، تعددية حزبية برزت إلى الواجهة أكثر من مرّة، وحتّى الحزب الواحد كان مضطرّاً إلى أنْ يأخذ في الحسبان الحقيقة التاريخية بأنّ الشعب السوري الواحد هو متنوّعُ سياسياً مع ذلك، فالشعب السوري عبر تاريخه أفرز ثلاثة تيارات سياسية رئيسية (اليساري والإسلامي والقومي)، وحقيقة أنه لا يمكن أن تُحكَم سورية من «لونٍ واحد»، وبالتالي فحتى هيمنة الحزب الواحد لم تستطع أن تمرّر نفسها سوى بشكلٍ «قيادةٍ لجبهة» تضمّ ولو جزءاً من التعددية السياسية لسورية.
فالحاجة إلى التعددية السياسية قد ظهرت خلال ظروف تاريخية معينة. ونستطيع تتبع بداية التعددية السياسية في التاريخ السوري، في مرحلة النضال من أجل الجلاء والنهوض الواسع للحركة الجماهيرية.
بين عامي 1918–1920، كان وزير الحربية السوري يوسف العظمة على اتصال مع مختلف القوى والاتجاهات لتوحيد الصف الوطني ضد الاحتلال الفرنسي. وفي مثال آخر، شكل إبراهيم هنانو قائد ثورة الشمال جبهة للمقاومة الشعبية عبر توحيد الثورات الصغيرة التي اشتعلت قبل ثورة الشمال. وكان هنانو قبيل تفجير الثورة على اتصال مع مختلف القوى الوطنية في حلب مثل حزب الاستقلال. وتشكلت هيئة أركان ثورة هنانو من هذه القوى، كما تشكلت القاعدة السياسية الخلفية في مدينة حلب من قوى سياسية متعددة.
من ناحية أخرى، يجب توضيح رأي سلطان باشا الأطرش بالأحزاب السياسية الموجودة. فهو بصفته القائد العام للثورة السورية الكبرى لم يسعَ إلى الحزبية يوماً، بل كان إلى جانب توحيد الصف والكلمة الوطنية لتحرير البلاد وطرد الاستعمار والاحتلال من سورية. تحدث سلطان باشا الأطرش عن هذه القضية وقال: «إنّ الشخصيات السياسية والقيادات العسكرية التي كان لنا شرف العمل معها في مختلف مراحل الثورة، ثم في أيام ما بعد الثورة، لم تكن جميعها منتمية في الأصل إلى مدرسة فكرية، أو منظمة سياسية واحدة». وأضاف سلطان باشا الأطرش: «خلال ذلك النشاط الحزبي الذي أخذ نطاقه يتسع مع مرور الأيام، آلينا على أنفسنا أن نتخذ موقفاً حيادياً من أصحابه، على اختلاف ميولهم وأهوائهم». (الثورة السورية الكبرى كما سردها قائدها العام سلطان باشا الأطرش، ص320–321).
من ناحية أخرى، يبرز من آباء الجلاء الحزبيين كلّ من الدكتور عبد الرحمن الشهبندر والمحامي فارس الخوري وغيرهم من قادة حزب الشعب السوري، وأحمد مريود من قادة حزب الاستقلال العربي، على سبيل المثال، إذْ وقف هؤلاء القادة فوق الانتماءات الحزبية الضيقة رغم انتسابهم إلى الأحزاب السياسية. لأنّ الذي يجمعهم كان أكبر بكثير من الأحزاب نفسها: توحيد سورية وتحقيق الجلاء.
لم يمنع آباء الجلاء نشاط الأحزاب السياسية. مثل حزب الشعب السوري وحزب الاستقلال العربي الموجودَين في قيادة الثورة. وحزب الاتحاد السوري والمؤتمر السوري الفلسطيني، والمؤتمر السوري العام في أمريكا، المشاركِين في دعم الثورة. كما كان من أهداف الثورة السورية الكبرى تأسيس جمهورية ديمقراطية في سورية. ولعل أبرز دليل على ذلك هو النداء الذي أصدره سلطان باشا الأطرش لإعلان الثورة. ومن يقرأ الصحف الصادرة في ذلك الوقت، ومذكرات قادة الثورة، سيعرف إلى أيِّ مدى كان قد وصل نضال الكلمة واختلاف الرأي حتى في زمن الكفاح المسلَّح للشعب السوري.
ومن أبرز نتائج تلك المرحلة: تشكل أبرز الأحزاب السورية في القرن العشرين في فترة النضال ضد الاستعمار الفرنسي. ويمكن مراجعة كتاب الحياة الحزبية في سورية لمؤلفه محمد حرب فرزات للمزيد حول نشاط هذه الأحزاب.
مؤامرة رونتري والحزب الواحد
في عام 1958، حدثت مظاهرات غاضبة في سورية ضد زيارة مسؤول أمريكي كبير، وقد نكَّلتْ السلطاتُ وقتها بالمتظاهرين. وكتبت الصحافة عن مؤامرة رونتري التي تهدف إلى القضاء على التعددية السياسية والحريات الديمقراطية في سورية لجرّها إلى المشاريع الأمريكية. (التقرير الخاص لجريدة الأخبار اللبنانية: أخطر مؤامرة ينفّذها رونتري. العدد 268، الثلاثاء 16 كانون الأول 1958).
بدأت السلطة وقتها هجوماً كبيراً على الأحزاب والصحافة والنقابات والمنظمات الثقافية والاجتماعية والجامعة السورية والبرلمان والجيش وجهاز الدولة: لقد أطل الحزب الواحد في سورية عبر هذا الهجوم على التعددية السياسية بعد زيارة رونتري مباشرة، وكان الوضع الدولي والداخلي مساعداً لتطبيق وصفة الحزب القائد لاحقاً. وبكلمة أخرى، لقد دعم الأمريكيون في فترة صعودهم هذا الشكل من الحكم في سورية عبر محاربة المكاسب الديمقراطية التي حققها الشعب السوري وأحزابه السياسية في فترة الخمسينيّات. وهذا أحد جوانب ما حدث وليس كلّه.
كلمة أخيرة
يقف تراث آباء الجلاء العظيم على نقيضٍ من مشروع رونتري الذي دعم مختلف أشكال اللّون الواحد. وقد حان الوقت لولادة سورية الحقيقية التي ناضل من أجلها المؤسسون الأوائل: سورية ديمقراطية تعددية موحَّدة خالية من التدخُّل الأجنبي. ولعلّ أحد أهم أسباب ذلك اليوم أن سورية بحاجة إلى تعددية حقيقية للوصول إلى الأهداف النهائية. ولا يمكن لأيِّ لون واحد بمفرده، أيّاً كان، حل المعضلات التي تواجه البلاد في اللحظة الراهنة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1210