أسئلة الموت والحياة
تطرح الحروب الكثير من الأسئلة على البشر، يتعلّق معظمها بالجدوى، وبما يجب أنْ يفْعلوه في هذه اللحظة بالذات. تحضرُ الأسئلة المتعلقة بالحياة في مواجهة الموت مباشرة. وربما لتشخيص اللحظة وتعريفها وبناء وعي يتجاوز فيه لحظة المواجهة هذه، يحاول الإنسان في النهاية هزيمة الموت والانتصار للحياة.
يبدو الحديث عن التعليم والثقافة والفن في زمن الحرب ترفاً لا طائل منه. لكن يحتاج البشر فعلياً للتفكير وإنتاج وعي يحاول التشخيص والفهم والمساهمة في تجاوز أحداث الواقع المباشرة والتفصيلية، وعي مرتبط بالواقع وليس مفصولاً عنه، يتحدّى فكرة الموت المرافقة للحروب ويتجاوزها. وللموت هنا أشكالٌ عديدة متنوعة ومختلفة، منها ما هو عنيفٌ وصارخٌ ومتوحّشٌ يصل إلى درجة الإبادة الفعلية، كما يحدث في غزّة اليوم، ومنها ما يستهدف الروح والذات، وهنا تكمن الإجابة، حيث يصبح الحديثُ عن التعليم والفن والثقافة ضرورةً في زمن الحرب للحفاظ على الرّوح من الانكسار، وتوفير مساحة أوسع لها للتعبير عن نفسها والاحتجاج ضدّ الحرب والظّلم والعنف... إلخ، من خلال فهم الوضع السياسي العام، وتحرير النفس مِن حالة القلق والخوف ومعاناة الانتظار، التي غالباً ما تكون الحركة والملاحظة فيها مقيّدة بقواعد يفرضها العدوّ ووسائل الإعلام وما يبثُّ من أخبار متناقضة، إلى التفاعل مع الحَدَث والمبادرة رغم المجهول الذي يكتنفُ الصّورة العامّة في اللّحظة الراهنة. وقد قدَّم الشعبُ الفلسطيني في غزّة نموذجاً فريداً غير مسبوق في مواجهة الموت بأشكاله المتعدّدة، ودروساً في التحدّي وصموداً أسطورياً لا يلين في معارك يومية تجاوزت ضراوتُها حدودَ المعقول.
في كتابه «حَيْونَة الإنسان» يقولُ ممدوح عدوان: «نحن لا نتعوّد يا أبي إلّا إذا ماتَ شيءٌ فينا، وتصوَّر حجم ما مات فينا حتى تعوّدنا على كل ما حولنا». إنّ الرغبةَ في العودة إلى الحياة الطبيعية تشير إلى إرادة الحياة والتمسّك بها، وتعبّر المبادرات المختلفة التي تطلّ برأسها في قطاعات متعددة عن ذلك بكل وضوح.
يمضي الاحتلال في تدمير مستقبل أطفال غزّة وشبابها، يعبّر الطلابُ في غزّة عن كراهيّتهم للحرب، فقد حرمتْهم مدارسُهم التي يفتقدونها كثيراً، يتحدّثون في فيديوهات مصوَّرة عن ذكرياتهم في المدرسة، ويحلمون بالعودة إليها، وهم يتمتّعون على صِغَرِ سنّهم بعقولٍ ناضجة، يؤكّدون أنّ الحربَ سرقتْ منهم طفولتَهم. ورغم مبادراتٍ ومحاولاتٍ عديدة للحفاظ على تعليم الأطفال بالحدّ الأدنى إلّا أنّها ليست كافيةً لإنقاذ تعليمهم، طالما أنّ الحربَ مستمرّة، فمنذ الأسبوع الأوّل مِن الحرب وتعليقِ الدراسة في جميع أنحاء القطّاع، لم يعد الطلّابُ إلى مدارسِهم، ونزحوا مع أهلهم وغادر العديد منهم مساكنَهم حاملين حقائبَهم المدرسية، وأمضوا العام الماضي يدرسون وحدهم من دون مدرسة أو مدرّسين. يتعمّد جيش الاحتلال ممارسةَ سياسة التجهيل القسريّ على الطلّاب الفلسطينيّين في حرمانهم من الدراسة، وتدمير مدارسهم ومنازلهم، وقتل آلاف الطلّاب والمعلّمين، وتدمير المدارس والجامعات.
مع ذلك، تصرّ العائلات على تعليم أطفالهم. وقد بدأت المبادرات التعليمية الفردية تَظهر هذا العام في مخيّمات النزوح، وأقام الكثيرون خِيَماً لتعليم الأطفال الموادّ الأساسيّة في المرحلة الابتدائية، رغم خطورة هذا النشاط بسبب عدم توقّف القصف «الإسرائيلي» واستهدافه كلَّ مكانٍ وزاوية. يستمتعُ الطلَّابُ بالدروس، فهُم يريدون أنْ يشعروا بأنّهم أطفالٌ لهم الحقُّ في الحياة والتعليم. يذهبُ الكثير منهم إلى خيام التدريس حفاةً ليس لديهم أحذية، يجلسون على الأرض رغم التّعب والإرهاق الجسديّ المضني.
يحاول الاحتلال تدميرَ أشكال الحياة والمرافق والقطاعات والحقوق الإنسانية الأساسية والوجود الفلسطيني بحدّ ذاته على أرضه. ولكنه لم ولن يستطيع تدميرَ الروح الفلسطينية الوثّابة للحياة ومقاومتها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1204