الحرب المفتوحة وإحداثيات العالم الجديد: استحقاق جدلية المعرفة-الممارسة

الحرب المفتوحة وإحداثيات العالم الجديد: استحقاق جدلية المعرفة-الممارسة

في موادَّ سابقة أشرنا إلى تشكل مزاج عام يتجاوز فضاء النقاش السياسي التخصّصي ليطال المجتمع ككل، حول سؤال «متى تنتهي الحرب؟»، ومعه نضجت بعض المقولات في محاولة الإجابة وتحديداً في كونها «حرباً طويلة أو مفتوحة». ولكن سؤال محاولة المعرفة يستدعي الطرف الآخر أيْ سؤال الممارسة. على هذا المحور ينضج جوهر المرحلة التاريخية الراهنة ككل. هنا بعض التوسع في ذلك.

جدلية الفلسفي-السياسي

في مواد سابقة قلنا إنه من خصائص المرحلة الراهنة اتّضاحُ الجوهر الفلسفي للعَين العاديّة، ليس فقط لنظام الاغتراب الرأسمالي بل للنظام الطبقي عبر التاريخ. وذلك لكون هذه المرحلة تعبِّرُ عن اشتدادٍ لتناقضات نظام الانقسام الطبقي في نسخته الرأسمالية إلى مرحلة لا يملك فيها هوامشَ المناورة التاريخية التي تم استنفادها مع المناورة الأخيرة ما بعد الحرب العالمية الثانية. إنّ هذا النظام لم يعد يملكُ هوامشَ مناورةٍ كتلك لإرساء نموذج الهيمنة الهجينة؛ حيث تمّ إشراك الجماهير في ممارسة الهيمنة على نفسها من خلال نمط الحياة الفرداني الاستهلاكي الذي كان تعميقاً للاغتراب في شكله الروحي-النفسي بعد أن كان الاغتراب يأخذ في الغالب طابع القمع الجسدي المباشر. هذا الاتّضاح للجوهر الفلسفي جاءَ نتيجةً للتراكم الكبير جداً للتجربة العملية، ولوصول كل التناقضات إلى حدودها التاريخية، مما جعلها تدميريةً لموضوع التناقض التاريخي للمجتمع الطبقي ككل. وهنا نقصد علاقة فرد-مجتمع، وعقل/ذات-موضوع، وذلك على وقع تعطُّل صورة العالم التي جرى إرساؤها في ظلّ الليبرالية ونمط الحياة المرتبط بها، وضمناً أدوار الأفراد وعلاقتهم بأنفسهم وبالعالم، وحُكماً ممارستهم (السياسية في جوهرها)، مع غياب أيّ صورةٍ للعالم (ونظامه السياسي ونمط حياته) في جعبة القوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها بديلةً عن تلك التي تعطلت.
يعود ذلك إلى أنّه جرى استنفاد المذاهب المثالية العقلانية المحتملة (التي تحافظ على علاقة بين الفرد-المجتمع، بين الذات-الموضوع) من الترسانة الفلسفية المثالية، التي صاغها عقل القوى المحافظة في تاريخ المجتمع الطبقي. هذا جعل من المذهب المثالي المتطرِّف الذي كان يطلّ برأسه في مراحل الأزمات الفلسفية-الاجتماعية الشديدة هو التصور الوحيد الممكن عن عالم لا يحافظ فيه المجتمع فحَسْب على انقسامه بين فرد-مجتمع، وعقل/ذات-موضوع، بل ولا يعمل في الوقت ذاته على التوليف الجدلي بين قطبَي التناقض، وإنّما يدمّر علاقة التناقض من خلال تدمير طرفَيها، أيْ الفرد والمجتمع. ونقصد هنا القضاء على الفرد الاجتماعي واجتماعِه مع الآخرين، وما يتبقى هو صيغة «ما بعد المجتمع» نحو حالة من البربرية الحيوانية؛ فلا مجتمع (من اجتماع)، ولا إنسان (ككائن اجتماعي). هذا هو برنامج العمل السياسي للقوى التي تحاول الحفاظ على هيمنتها. إنّ جدلية الفلسفة والسياسة اليوم تعمل بشكل وثيق على مستوى الخطاب الصريح وليس في كونهما يتخادمان ضمنياً فقط.

جدلية المعرفة-الممارسة

إنّ التصورات الفلسفية عن العالَم، كما هو معلوم، يجري فيها تعريف علاقة فرد-مجتمع، عقل/ذات-موضوع، وعي-ممارسة. وطوال تاريخ المجتمع المنقسم طبقيّاً هيمنت النظرة المثالية لهذه العلاقة في عجز المذاهب المثالية عن توليف طرفي العلاقة، وغالباً ما تمّ وضع الطرفين في تناقض. وهذا الفصل الوجودي تطلَّب سؤالاً معرفياً عن مدى إمكانية المعرفة والقبض على الحقيقة. وطبعاً كانت الإجابة المثالية، وفي شكلها المتطرِّف هي إما عدم إمكانية معرفة الحقيقة، أو عدم وجودها أصلاً. ولكن مع التطور الأنضج للمذهب المادي، جرى حل هذا السؤال من خلال الممارسة. فالممارسة هي مدخل المعرفة. وهذه الإجابة الفلسفية المادية التاريخية نضجت مع تطور الممارسة السياسية الثورية النقيضة للقوى المهيمنة، من موقع تجاوُز المجتمع الطبقي مع ظهور الطبقة العاملة على مسرح التاريخ، التي كان جدول أعمالها تجاوُز انقسام/تناقض: فرد-مجتمع، وعقل/ذات-موضوع. وهذا المسار تطوَّر إلى مستواه الأقصى مع الموجة الثوريّة في بداية القرن العشرين، ونضج مع نتائج الحرب العالمية الثانية. والممارسة المقصودة هي الفعالية في القبض على الموضوع لغاية تغييره وفقاً لضرورات التطور الداخلية لهذا الموضوع، والتي هي هنا المجتمع المنقسم طبقياً في نسخته الرأسمالية. ومن هنا جاء جدول أعمال القوى المهيمنة لما بعد الحرب العالمية في صيغته الذاتية الفردانية مستهدِفاً تعطيلَ مسار التوليف ذاك بين الفرد-المجتمع، وبالتالي تطلَّبَ تعطيلَ علاقة ممارسة-معرفة. وكما هو معلوم جرى ضربُ الممارسة السياسية التي هي أكثر الأشكال تطوراً وشمولية من الممارسة الاجتماعية، وجرى إغلاقُ عالَم الفرد على نفسه، وقطعُه عن المجتمع في «ممارسة» سلبيّة استهلاكية. وقد طالَ ضربُ الممارسة الفاعلة كلَّ أشكالها ولم ينحصر في السياسة، بل طالَ كلَّ أشكال «التدخل» الفردي (الجماعي في جوهره) الإبداعي في عمليات الواقع، فصارت تلك العمليات مغتربةً عن الأفراد وكأنّها تحصل في انفصالٍ تامّ عن الإنسان، فنرى مثلاً مقولة «آليات السوق التي تسير بشكل تلقائي».
وتم بالتالي القضاء على الإنسان السياسيّ الذي بدأ في التشكُّل في المرحل الثورية الماضية، وكانَ نتيجةً لذلك ضربُ قدرتِه على المعرفة. والمعرفة لا تنحصر بالحاضر، بل هي قبضٌ على ضرورات التطوّر الداخلية وإمكانياته الكامنة، أي قدرة معرفة المستقبل. ومعلومٌ منذ فترة في فضاء النقاش المعرفي عالمياً كيف بدأت تتضح مقولات «أزمة صورة المستقبل» و«أزمة الإبداع» و«أزمة العقلانية»، و«أزمة اليقين»، وغيرها.

المشروع النقيض والحرب المفتوحة

ليست الحرب المفتوحة الحالية إلّا دليلاً على وصولِ تناقضات المجتمع الرأسمالي، ومعه المجتمع الطبقي، إلى حدودها التاريخية، ودخولِ المجتمع في حالةٍ من الثبات النّسبي الطويل، حيث الحربُ فيه حالةٌ أصيلة دائمة لا عابرة كما في السابق. وهذه الحرب ليست إلّا تعبيراً عن أزمة النظام ككل، ومعه غياب التصوّر البديل عن العالم القادر على أن يحلّ تناقضات التصوُّر الراهن المأزوم الذي هو جوهر الحرب الراهنة، من خلال توليف طرفَي التناقض فرد-مجتمع، وعقل/ذات-موضوع. فهذا الانقسام هو القاعدة المؤسِّسة لنمط الإنتاج الحالي. وعليه فإنّ الظواهر التي نراها اليوم من نوع صدمةِ العقل العام واللايقين بسبب انفتاح التاريخ على أزمة مدمرة، هي تعبير مؤلم عن انهيار التصوّر عن العالم، ولكنها أيضاً استدعاءٌ للنقيض مع كلّ عدّته التي أشرنا إليها. فالمطلوب اليوم هو استكمال مشروع التوليف الذي بدأ بشكل كبير في بداية القرن الماضي مع الموجة الثورية، فما كلُّ جدول الأعمال التدميري البربري الهجين إلّا تعطيلٌ لمفاعيل تلك الموجة.
وهذا الاستدعاء يعني فيما يعنيه استكمالَ بناء الإنسان السياسي من خلال الإشراك لأوسع القوى في الممارسة السياسية، ليس فقط من أجل تمكينها من المعرفة، وبالتالي الإجابة عن الأسئلة المرعبة، بل أيضاً من أجل الحفاظ على الفرد والمجتمع في آن، من خلال توليفهما. لا تملك أيّ قوة في العالم إمكانية القفز فوق هذه الضرورة مهما تمكّنت من المناورة في بعض الهوامش التاريخية لمجتمع «الإنتاج البضاعي».
وكما قلنا سابقاً فإنّ الطرف الأكثر تعفناً من التاريخ هو الذي يقود عملية التطور والسير، ومن هنا فإنّ الأسئلة التي تنضج في منطقتنا -والتي تعبر بشكل واضح عن قضايا تعطُّل العالم في صورته السابقة ودخوله في حالة من الحرب المفتوحة (أفضل من تعبير «الحرب الطويلة»)- هذه الأسئلة هي التي ستقود عملية نضوج نموذج العالم الجديد لما بعد الانقسام العميق، مع انتهاء مفاعيل الدولة البرجوازية (والسياسة كعملية مغتربة عن الفرد) على مختلف أشكالها في المركز كما في الأطراف. ليس واضحاً كيف ستتطور المبادرة التاريخية من أجل تعظيم الممارسة السياسية للشعوب (ومسؤوليتها بالضرورة) كمدخل أساس لوقف الحرب الهجينة من خلال تجاوز الانقسام الجوهري فرد-مجتمع، ولكن الأكيد أنها يجب أن تتعاظم كأحد إحداثيات العالم الجديد الذي يحاول أن يُولَد، ودونه سيحصل تدميرٌ لموضوع التناقض، أيْ المجتمع والإنسان الاجتماعي، كتدمير حضاريٍّ ليست منطقتُنا إلّا إحدى مقدماته التي تُرسَم بالدَّم والدموع، ولكنها تقاتِل، ومعها تباشيرُ العالَم الجديد الذي سيَطرَحُ على نفسه سؤالَ تطويره لأدواته وبرنامج أعماله سريعاً. أليس الحلّ السوري المطروح مثلاً هو تعبيرٌ عن كل ما سبق، والقائل بأنّ على السوريّين أن يقبضوا على مصيرهم بأنفسهم؟! إنه كذلك بلا شك.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1197