فلسطين أمّنا كلّنا

فلسطين أمّنا كلّنا

ثمة مقولة واقعية تؤكد أن كل شيء يحمل بداخله نقيضه، كذلك هي الحياة والموت يحمل كل منهما في باطنه الآخر، فمن رحم الموت تكون الحياة. يبدو الموت وقحاً أحياناً، ومخيفاً أيضاً، فخوفنا من الموت يرجع إلى خوفنا من الخسارة التي يحملها.

على أحد جدران المعرض الوطني في لندن عاصمة بريطانيا، عُرضت لوحة «الأمومة» لبابلو بيكاسو، وهي واحدة من أهم أعمال الفنان الإسباني الشهير، تعود إلى عام 1901. ومؤخراً قام ناشطان مؤيدان للقضية الفلسطينية بتغطية هذه اللوحة بالذات بصورة لأم من قطاع غزة وطفلها الجريح، أمام كاميرات المعرض وزواره.
وتُظهر مقاطع الفيديو التي تداولتها وسائل التواصل الشابين: جاي هالاي (23 عاماً)، ومونداي مالاكي روزنفيلد (21 عاماً)، وهما ينشران صورة الأم الغزية ويلصقانها لفترة وجيزة على الزجاج الذي يغطي لوحة بيكاسو، فيما هتف الشاب: «فلسطين حرة» أثناء قيام الحارس بدفعه خارج المعرض. بينما أراقت الشابة طلاء أحمر على أرضية المعرض وجلست كاشفة عن قميص مكتوب عليه «أوقفوا تسليح إسرائيل»، ثم صرخت بصوت عال: «المملكة المتحدة متواطئة في الإبادة الجماعية، تُستخدم الأسلحة التي يتم تصنيعها في المملكة لقتل الأطفال الفلسطينيين وأمهاتهم وعائلات بأكملها». وهنا بدأ حارس ثانٍ في استدعاء جهاز الاتصال اللاسلكي الخاص به وطلب من الزوار مغادرة الغرفة.

«الأمومة» في مواجهة أمّ غزّية

تحمل رمزية ما قام به هذان الناشطان الكثير، فالصورة التي ألصقها الناشطان على الزجاج الواقي للوحة بيكاسو «الأمومة» احتجاجاً على حرب الإبادة الصهيونية الجماعية والمستمرة منذ عام ضد الفلسطينيين هي صورة التقطها الصحفي الفلسطيني علي جاد الله، وتظهر فيها أم جريحة تبكي وهي تحتضن طفلها الملطخ بالدماء في مستشفى في غزة بعد غارة إسرائيلية.
لم يفت المتحف التأكيد على إجراءاته ضد تصرف الشابين، وقال لوكالة «فرانس برس»: «حضرت الشرطة وألقت القبض على الاثنين والغرفة مغلقة حالياً ولم يلحق أي ضرر بأي من اللوحات». ولم يصدر عن المتحف ولا عن وسائل الإعلام الغربية التي نقلت الخبر أي تعليق عن حق الشابين في التعبير عن رأيهما ولا حتى عن حرية الرأي والتعبير وحقوق الإنسان والديمقراطية وو...إلخ من تلك الديباجات التي أتحفتنا بها هذه الوسائل على مر عقود من الزمن.

ليسوا مجرد أرقام

تنقل الأخبار القادمة من غزة مؤخراً أخبار الموت والإصابات البشرية هناك، كما كانت في بداية الحرب لكن هذه المرة مع بعض الفروق، فحيث كانت تأتي بأسماء الشهداء وعائلاتهم ومناطق استشهادهم والكثير من التفاصيل لما يحدث، تأتي اليوم الكثير من الأخبار المبتورة، مع اتساع رقعة الحرب وتعدد جبهاتها، وعدم تمكن ناقلي الخبر عن رصد كل الحالات بحيث تحول الناس من لحم ودم إلى مجرد أرقام، يكفي أن تقرأ هذا التصريح الصادر عن وزارة الصحة في غزة في يوم واحد:
«وزارة الصحة في غزة: ارتكب الاحتلال 4 مجازر في قطاع غزة خلال الـ 24 ساعة الماضية، وصل منها إلى المستشفيات 61 شهيداً و231 جريحاً، ليرتفع عدد ضحايا العدوان الإسرائيلي المتواصل على القطاع لليوم الـ 371 إلى 42126 شهيداً و98117 جريحاً»
هذا غيض من فيض، خاصة بعد العدوان الأخير على لبنان، رغم محاولات كثير من الصفحات والمتابعين إظهار الجانب الإنساني وتناول قصص الناس اليومية وتفاصيل حياتهم وما يحدث لهم وتوثيق ذلك بالصور والفيديوهات وغيرها.

قصة زمزم

وزمزم هذه طفلة فلسطينية نزحت برفقة عائلتها إلى جمعية تأهيل المعاقين في جباليا مع إعلان الاحتلال عملية عسكرية شمال القطاع، وماهي إلا ساعات حتى وجدت نفسها محاصرة بآليات الاحتلال ومعهم العشرات من العائلات محاصرين ومهددين بالموت، كما ورد في الفيديو الذي نقل قصتها وصوتها بعد أن تمكنت من الاتصال من تحت الأنقاض لتطلب المساعدة. الطفلة ذات 15 ربيعاً فقط اضطرت لتكفين والدتها التي لفظت أنفاسها أمامها تصرخ باكية بلهجة غزاوية: «أنا كفنت امي بإيدي... شوفتها بآخر أنفاسها ومقدرتش أعمل إشي...» وكان جيش الاحتلال قد استهدف مركز الإيواء هذا بشكل مباشر بمن فيه، بينما فقدت الطفلة والديها وشقيقها وتمكنت من النجاة بأعجوبة لتحكي قصتها.
قصة زمزم هذه واحدة من قصص كثيرة وعديدة بعدد الشهداء والعائلات الفلسطينية التي فقدت أحداً من أفرادها والجرحى والمصابين، فلكل إنسان بهذه الحياة قصته الخاصة كما أنه له قصة موته الخاصة.

أطفال غزة

تكشف الحروب عن قباحتها كل يوم، وتكشف عن قباحة من يطلبها ويتخفى خلفها هرباً من أزماته التي يعتقد ألّا حل لها سوى بالحروب، وتكشف الحروب أيضاً قباحة من يمولها ومن يرتكب إثم إشعالها واستمرارها.
الحرب قبيحة، لا تحاول إخفاء وجهها الكريه بل تعمد على إظهار أقصى ما يمكن من البشاعة في يومياتها المباشرة، خاصة عند الطرف المهزوم فعلياً، لتمويه الهزيمة وتصديرها على أنها انتصار، لذلك فقط يوغل العدو الصهيوني بكل ما لديه من وسائل بارتكاب أقصى درجات القتل والإجرام والتنكيل بالناس أحياءً وأمواتاً.
ولم يسلم منه أحد، لا البشر ولا الحجر، متجاوزاً بهمجيته ووحشيته كل الأعراف البشرية الخاصة بالحروب سابقاً، ولم يسلم منه لا النساء ولا الأطفال ولا حتى الأجنة التي لم تولد بعد! فقد كشف المستشار الإعلامي لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا) في غزّة عدنان أبو حسنة، مؤخراً، حدوث تغيرات خطيرة خلال عام من الحرب على المستوى البنيوي والجيني بالنسبة للأطفال المولودين في قطاع غزّة. وأكد أنّ الأطفال يولدون في قطاع غزّة قصار القامة وناقصي الوزن، وهذا لم يحدث منذ عام 1948، وأن غالبية العائلات في القطاع تتناول وجبة واحدة كلّ يومين مما يشكل خطراً على حياتهم خاصة على الأطفال والأمهات، بسبب الحصار المشدد عليهم منذ تشرين الأول الماضي والذي سبب نقصاً في المساعدات، خاصة الغذائية، وغياب لكثير من البضائع الأساسية التي يحتاجونها كالأدوية ومواد التنظيف والألبسة وغيرها.
كما حذّر أبو حسنة من انتشار المجاعة سواء في شمال قطاع غزّة أو جنوبه، لأن الوكالة حسب تصريحه، لم تتمكّن من توزيع الحصص الغذائية على مليون فلسطيني في شهر آب وعلى مليون و400 ألف فلسطيني في شهر أيلول.

رسالة القطاع الصحي إلى بايدن

نشر تسعة وتسعون أمريكياً من العاملين في مجال الرعاية الصحية الذين تطوعوا في قطاع غزة رسالة مفتوحة إلى الرئيس الأمريكي بايدن والنائبة هاريس، قدروا فيها أن عدد الشهداء الحقيقي في قطاع غزة تجاوز 118908، أو ما يقارب 5.4٪ من سكان غزة.
وأشار هؤلاء إلى كثرة عدد المصابين والجرحى، خاصة في القطاع الصحي وعمال الإغاثة سواء من الفلسطينيين أو من المتطوعين الدوليين، حسب ما ورد في رسالتهم، وطالبوا بوقف إطلاق النار من خلال وقف إمدادات الأسلحة إلى الكيان الصهيوني: «من الضروري فرض وقف إطلاق النار من خلال إنهاء الدعم العسكري لإسرائيل ودعم حظر الأسلحة الدولي المفروض على إسرائيل».

بين اليقين والشك!

يعتقد كثيرون، عن حسن نية أو العكس، أن ثمة تفارق في المواقف بين الولايات المتحدة والكيان الصهيوني. وأن النخبة الحاكمة فعلياً في الغرب عموماً وأمريكا خصوصاً ليست راضية عما يجري في الشرق الأوسط. ولكن حقائق الدعم الغربي للكيان بكل أشكاله تُظهر بطلان هذا الاعتقاد. وقد أدركت الشعوب الغربية ذلك، الأمر الذي حدا بهم إلى التضامن وتأييد مظلومية الشعب الفلسطيني وشعوب المنطقة كما فعل الشابان أمام لوحة بيكاسو. ولكن لا يزال لدى البعض ممن حولنا من يظن أنه يمكن «تحييد الأمريكي أو إقناع الصهيوني»، ما زال في نفوس البعض شك بالمقاومة وإمكانية انتصارها، وأوهام بعجزه أمام جبروت المحتل ومن يقف خلفه، وسواء وعى ذلك أم لم يعِه، فإنه موضوعياً يخدم عدواً صار عبئاً على البشرية كلها، في لحظة تاريخية نوعية يمكن فيها الانتصار على هذا العدو.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1196