عن الحرب المفتوحة: حول سؤال «ماذا بعد؟»
أحد جوانب العالَم الذي يموت هو موت نظرته إلى العالم، أيْ تعريفه للحاضر، وللمستقبل، وللممكن. وهذا الموت لا يحصل فقط على المستوى النظري، في الأفكار المجردة والمكتوبة، بل له آلامه المادية الملموسة في عقل البشرية، وفي فقدانها لتوازنها نتيجة انهيار المجتمع القديم، وعدم اتضاح الجديد. وفي ذلك الوقت، حسب غرامشي «تولَد الوحوش» ليس الوحوش السياسية والعسكرية فقط بل الروحية والنفسية والعقلية أيضاً!
تسلّل النظري إلى السياسي واليومي
يبدو أن التوصيف النظري للمرحلة بدأت ملامحُه تتسلّل إلى الوعي العام السياسيّ للقوى التي تفتقد القاعدة النظرية الكافية ولكنها منغمسة بالتجربة حتى رأسها، وإلى الوعي اليومي ربطاً بالأحداث المُعاشة نفسها. وهذا التسلّل يأخذ أشكالاً مختلفة حسب المجتمع ودرجة حماوته الأمنية والعسكرية والسياسية. والمقصود بالتوصيف النظري حول المرحلة هو اعتبارها أزمة عالمية متزامنة ومترابطة الحلول، وصراعاتها مفتوحة طالما لم يحصل التحول في البنية العالمية باتجاه تجاوز الرأسمالية نتيجة انغلاق أفق المناورة لدى الرأسمالية، وبالتالي دخول البنية العالمية مرحلة دائمة من الحرب، الطويلة، لا جولة من الصراع يليها فترات «راحة وسلام» كما حصل بعد الحروب الإمبريالية السابقة (العالمية الأولى والثانية، والحروب البينية والإقليمية اللاحقة).
وبشكل عام يظهر هذا التسلُّل، أو بالأحرى تشكّل القاعدة التي تسمح بتسلّله، مكثَّفاً في سؤال حول أكثر المناطق سخونة، ومنها الشرق الأوسط: متى سينتهي الحدث-الحرب؟ حتى «نعود» لما قبله؟ وإلى متى ستطول؟
هذا السؤال بحدّ ذاته هو مدخلُ أزمةِ العقل السياسي الرّاهن، ومعه أزمة العقل العام اليومي للغالبية، أيْ نظرتها إلى الحياة وإلى المستقبل، وضمناً إلى دورها.
الدمار جالب الاستفاقات
في عدة مناسبات ذكر ماركس أن التاريخ يقتضي أحياناً أنَّ الدمار ضروريٌّ لكي تستفيق الأمم من حالة خدرها الطويل. وفيما يعنينا يتعاظم الدمار في مناطق مختلفة من العالم، من فنزويلا وأزمتها، إلى السودان وليبيا، إلى أوكرانيا، إلى الشرق الأوسط الأكثر حماوةً وتركيزاً ووزناً، كلّها أزمات تتجمع لتشكل التحوُّل في العقل السياسي واليوميّ من عقل «ثبات التاريخ وصورة العالم» إلى عقل تحوّلٍ وفيضٍ وصراع مفتوح. ليس هذا العقل الجديد بطارئ على التاريخ، بينما عقلُ الثبات الذي عمّمته مقولات «نهاية التاريخ» (وكأنّ المريبَ يقولُ خذوني) هو العقل الطارئ. فصورة العالم «الرأسمالي» حيث ترسَّمتْ فيه الأدوار والإمكانيّات وشكل ونمط الحياة وأدوار الأفراد ومسؤوليتهم، كلها انهارت وتنهار مع كل تصاعد للأزمة. ولهذا الانهيار دور في التأسيس للصورة النقيضة. فلا يمكن لأيّ نظرية مهما كانت قوّتها أن تنتصر دون تشكل القاعدة المادية التاريخية المعاشة لوعيِ مَن يجب أن يحملها.
من السياسي إلى اليومي
منذ أن بدأت الملامح النظرية للأزمة العميقة للرأسمالية بالتبلور لدى قلّة قليلة من العقول، وبشكل خاص بعض الماركسيين، وما يعنيه ذلك على مستوى الأزمات المفتوحة والمترابطة السياسية والعسكرية والعقلية والاجتماعية والطبيعية، أخذ العقل السياسي على مستوى العالم وقتاً يمكن تقديره بنحو العقدين من الزمن تقريباً، لدى القوى وأجهزة الدولة والأحزاب، بدايةً من الدول الأكثر ارتباطاً بالواقع العالَمي وبضرورة تحويله، وبشكلٍ خاص روسيا والصين مثلاً، ومن ثم للدول الأقل وزناً شيئاً فشيئاً، حتى وصلت ملامح، أو احتمالات تقبّل، هذا التوصيف إلى الوعي اليومي. وهذا مفهوم إذا ما طبّقنا منهجية ماركس فيما يسمّيه «الطريقة العكسيّة» حيث إن مستويات التطوّر الأكثر تجريداً تسمح بتتبّع المستويات الأقل تطوراً. فالنظري-الفكري-الفلسفي أكثر تجريداً من العِلم السياسيّ المباشر، وكلاها أكثر تجريداً من الوعي اليومي. ولكن لِلتسارع الشديد للمرحلة ولوزن التناقضات فيها، فإنّ السياسي لحق بالنظري، بشكل سريع نسبياً، ولحقهما اليومي بشكل سريع أيضاً. والسرعة يمكن قياسها بمدى التحول في مستويات الوعي المشار إليها على مستوى العالَم، أيْ في عموميّة التحوّل في الكوكب كلّه.
تحطم صورة الفردانية السلبية
إنّ تحطّم صورة العالَم التي جرى تعميمُها خلال العقود الماضية، هي تحطّم مقولات ثبات المجتمع الرأسمالي، ونمط الحياة الرأسمالي، الاستهلاكي، حيث الإنسان فيه «يوجد لذاته» فقط، وليس «موجوداً لذاته وللآخرين». ولهذا، ومع كل ما يعنيه ذلك من نمط حياة استهلاكيٍّ سلبيٍّ وكلّ ثقافة «المتعة الشكلية»، تطلبت تلك النظرة الهجوم على الفعالية والإبداع البشريين، فهذه الفعالية هي المدخل الوحيد للقبض على الواحد بالمعنى العقلي، وبالتالي القبض على حقيقة الذات، والسيطرة عليها من خلال السيطرة على المجتمع، أيْ الحرية، في عملية تاريخية مفتوحة الاحتمالات ودائمة التغيُّر. ولهذا فإنّ تحطم تلك الصورة الفردانية الليبرالية يستدعي بلا شك ضرورة الفعالية.
ولهذا فإن «الاطمئنان» النفسي والعقلي حول صورةٍ مفهومةٍ عن العالَم، غير تلك المنهارة، هو الخروج من الموقف السلبيّ نحو الموقف الفاعل، أيْ الفعالية السياسية للأفراد. أيْ أنْ يكون الأفراد قادرين على صناعة حاضرهم، لا متلقّين سلبيّين له. بالمناسبة، إنّ هذه الفعالية وهؤلاء الأفراد هم اليوم إحدى أدوات وسلاح التدمير الهجين الذي تقوم به قوى العالَم القديم كما أشيرَ سابقاً. هنا مرة جديدة ينكشف الجوهر الفلسفي ومقولاته بالمعنى الملموس التاريخي واليومي والسياسي، فليس جوهر المرحلة فقط هو الذي ينكشف للعلَن، بل انكشاف جوهر التطوّر البشري بكامله مع انتهاء مفاعيل عصر الانقسام الطبقيّ، وبالتالي توقُّع مقولات النظرية المادية التاريخية وصيرورتها برنامجاً سياسيّاً ممكناً ومطلوباً تحقيقُه، لا في الجانب الاقتصادي الكمّي فقط (الذي تحول لدى البعض إلى برنامج اقتصادويّ وحيد الجانب) بل في الجانب النوعي لتجاوز مجتمع الانقسام الطبقي وراهناً تجاوز النسخة الحالية منه، أي الإنتاج البضاعي والانقسام في العمل الذهني والعضلي، وبالتالي تجاوز الاغتراب.
وهنا تصلح إحدى مقولات ماركس: «الشيوعية هي أحجيةُ التاريخ محلولةً، وهي تعي نفسَها أنّها هي هذا الحلّ» (المخطوطات الاقتصادية والفلسفية 1844).
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1194