تفاؤل العقل والإرادة من أجل الانتصار
«عقلي متشائم، لكن إرادتي متفائلة. ولأنني لا أبني أوهاماً أبداً، فإنني نادراً ما أشعر بخيبة الأمل. لقد كنت دائماً مسلحاً بالصبر غير المحدود - ليس من النوع السلبي الخامل، بل الصبر المصاحب للمثابرة». هذه العبارات الشهيرة كتبها غرامشي في رسالة منه كسجين سياسيّ ومناضل في معتقلات الفاشية إلى شقيقه كارلو في كانون الأول 1929. ولكن تعبير «تشاؤم العقل وتفاؤل الإرادة» على العموم ينسب خطأ إلى غرامشي نفسه.
لقد استعار غرامشي هذا التعبير من رومان رولان (في مقال في صحيفة لوردن نوفو أثناء الإضراب العام في تورينو في نيسان 1920) لوصف سمات «المفهوم الاشتراكي للعملية الثورية» على النقيض من أولئك الفوضويين (الأناركيين) الذين قدموا أنفسهم باعتبارهم «مستودع الحقيقة الثورية المكشوفة».
واستشهد غرامشي على وجه التحديد بشعار رولاند في سياق الردّ على أحد الفوضويين الإيطاليين الذي زعم عن طريق تفسير خاطئ كلاسيكي للمناقشة بين كارل ماركس والقيادي الفوضوي ميخائيل باكونين حول الدولة في مرحلة الانتقال إلى الاشتراكية بأنّ ماركس كان «متشائماً» حيث تحدث ذلك الفوضوي عن: «تشاؤم ماركس بشأن الفكر... بقدر ما تتطلَّب الثورة التي تحدث من خلال أقصى درجات البؤس أو القمع تأسيسَ دكتاتورية استبدادية» بحسب وصف الأناركيّ. أما دفاع غرامشي عن الحجة الماركسية فكان لمصلحة حزب ثوري يهدف إلى إنشاء دولة ثورية. حيث كتب غرامشي في خطاب إلى الفوضويين في صحيفة «النظام الجديدة» بتاريخ 30 نيسان 1920 ما يأتي:
«إن الطبقة البروليتارية مبعثرة الآن بشكل عشوائي في المدن والأرياف، حول الآلات، أو منكبّةٌ على التربة الزراعية: إنها تعمل دون أن تعرف لماذا تعمل، وتضطر إلى العمل العبودي بسبب التهديد المستمر بالموت جوعاً وبرداً. إنها تتجمع معاً في النقابات والتعاونيات، ولكن من خلال ضرورة المقاومة الاقتصادية، وليس من خلال الاختيار التلقائي، وليس من خلال اتباع الدوافع التي تولد بحرية في روحها. إن جميع أفعال جماهير البروليتاريا تتحرك بالضرورة في أشكال أنشأها نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي أنشأته سلطة الدولة البرجوازية. إن توقُّعَ أنْ تقوم هذه الجماهيرُ -التي تمّ تقليصُها إلى مثل هذه الظروف الاستعبادية روحياً وجسدياً- بالتعبير عن تطوّر تاريخيّ مستقلّ، وتوقُّعَ أنْ تبدأ وتدعم بشكل عفوي خلقَ الثورة، هو وهمٌ محض من جانب الإيديولوجيين».
من المستحيل حقًا قراءة دفاتر السجن لغرامشي دون تقدير مدى تجاوزه للثنائية بين تشاؤم الفكر وتفاؤل الإرادة. لقد فعل ذلك على وجه التحديد من خلال تطبيق ذكائه الإبداعي المذهل على ما قد يكون ضروريًا حقًا لإنشاء نوع جديد من الحزب السياسي، والذي أطلق عليه «الأمير الحديث» استعارةً من ميكيافيللي.
الوعي الثوري ضدّ «الجبْرية»
إن التقدم الاجتماعي، بجميع مندرجاته ومجالاته، من تحسين الظروف الاقتصادية الاجتماعية للشعوب، إلى تحقيق انتصارات على أعدائها الطبقيين وعلى مستعمريها ومضطهديها، هو حركة لا تحدث بشكلٍ عفويّ أو تلقائي، كما أنّها لا تحدث من جهة أخرى بمجرّد التمنّيات.
إنّ التقدم يعتمد على النية والهدف الإنسانيين وعلى قبول المسؤولية عن إنتاجه. ومقولة المسؤولية هنا تحتل أهمية كبيرة. حيث تدفع الإنسانية المسؤولة، سواء كان المقصود فرداً أو تنظيماً حزبياً أو مجتمعاً أو دولة أو تحالف قوى، إلى أن يصبحوا أكثر موضوعية في التقييم سواءً لقواهم الذاتية أو للظروف الموضوعية المحيطة.
وفي التأمل في الحاجة إلى تصور التقدم باعتباره مسؤولية وليس «هبة»، ينبغي التشديد على التحديات الماثلة في أننا كبشر مثقلون بطبيعتنا بالدوافع والعواطف والانفعالات، لدرجة أننا نميل دائماً إلى الاعتماد بشكل مفرط على فعالية هذه الأشياء... ولكن بما أن العامل المتغير، العامل الذي يمكن تغييره إلى ما لا نهاية، هو الظروف الاجتماعية التي تستدعي وتوجّه الدوافع والعواطف، فإن الوسائل الإيجابية للتقدم تكمن في تطبيق الوعي والتفكير العلمي على بناء الأجهزة الاجتماعية المناسبة.
ولا يتضمن تفاؤل العقل تبنّي أيّ تفكيرٍ «جَبريّ» تجاه سير التاريخ؛ بمعنى المذهب الذي يعوَّل بشكلٍ مطلق على العوامل الموضوعية لوحدها دون تأمين شروط التغيير الذاتية. بل إنّ تفاؤل العقل يتضمن، من بين أمور أخرى، في واقع الأمر الحساسية للطوارئ في التاريخ البشري، والتقدير الصحيح لمدى عظم الأحداث المفصلية عندما تكون كذلك بالفعل، أو مدى تفاهة أحداث أخرى من حيث تأثيرها في سير التاريخ من جهة أخرى عندما تكون كذلك بالفعل أيضاً. إنّ التساؤل بحد ذاته عن متى يكون هذا أو ذاك من الأحداث عظيماً أو تافهاً بهذا المعنى هو بحد ذاته سؤالٌ معرفيّ على درجةٍ عالية من الخطورة في النظرية والممارسة الثورية. فعليه يتوقّف نجاح أو إخفاق المناضلين في إنجاز المهمّات الكبرى.
تفاؤل العقل والإرادة معاً
على هذا الأساس يمكن تعريف العقل الثوريّ بأنّه متفائل بالمعنى العام والاستراتيجي وطويل المدى، لأنّ هذا التفاؤل مبنيٌّ على وعي علميّ للنزعات الموضوعية الكامنة في الحركة الاجتماعية بحد ذاتها بوصفها حركةً تمتلك الدوافع الداخلية (التناقضات الداخلية) للتطوّر إلى الأمام – لتطوير البشرية إلى حالٍ أفضل. وترتبط الإرادة بدورها ارتباطاً جدليّاً مع العقل في هذا الصدد، لأنّ العقل الثوريّ على مستوى التنظيم «العاقل» للحقائق الموضوعية، يشحن بدوره العناصر العاطفية في روح البشر المنخرطين في إطار النضال الجماعي، إنّه «التفاؤل يعدي» وكلّما كان مؤسساً على فهم أفضل للحقائق والظروف الواقعية، كلما كان موضوعياً أكثر في فهم نقاط القوة والضعف معاً، وفي تشخيص الظروف الخاصة والملموسة كما في استيعاب الميل التاريخي العام، كلّما كان أمضى في شحذ الإرادة الإنسانية للمناضلين وتصليب إيمانهم بالانتصار. وهناك حركة بالاتجاه الآخر أيضاً تلعب دورها، ويمكن أن نتلمّسها على سبيل المثال في مقولةٍ «القابضين على الجمر» الشهيرة؛ فماذا يعني ذلك؟ إنّ القابض على جمر مبادئه والمتمسّك بالإخلاص لقضيّته يمكن أن يصمد في ذلك حتّى في تلك الفترات التاريخية التي تبدو في الظروف الموضوعية الملموسة المؤقتة تاريخياً ظروفاً «معاكسة»، ظروفَ انحسار أو تراجع في الحركة الثورية، وهنا نجد تفاعلاً مهمّاً بين القوة النفسية والروحية (قوة الإرادة) للصامدين من جهة وبين تفاؤل عقلهم، حيث تساعد قوة الإرادة في تثبيت التوازن النفسي والعقلي، وبدوره يلعب ارتفاع مستوى الوعي وشحذه وترقيته أكثر فأكثر عبر التثقيف الثوري والعلمي للمناضلين بشحذ الإرادة كلّما كلّت.
إنّ هذا الديالكتيك بين العقل والإرادة عملية في غاية الأهمّية في خوض معارك النضال الثوري، وفي مقاومة الأسلحة المركّبة والحرب الهجينة المعقّدة التي يستخدمها أعداء التقدم الإنساني وأعداء الشعوب اليوم، بقيادة الإمبريالية الأمريكية والحركة الصهيونية. حيث يتم الدمج بين أساليب الحرب الفيزيائية والنفسية. ولذلك لا بدّ أن تكون مقاومتها وشنّ الهجوم المضادّ عليها مركّباً أيضاً، ولا شكّ أن للعوامل المعنوية والنفسية أهمية كبرى في هذا الصدد.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1193