فقط في دمشق!
فقط في بلدنا المتعب كأرواحنا، تسير في أحد الطرقات فيسقط عليك جسر من السماء. قد تشعر لوهلة أنك تعيش حلماً يحكي رواية أو قصة فانتازيا، ولكن مرارة التفاصيل اليومية المعاشة والمفارقات المتتابعة التي تنهال على رؤوسنا، تذكرك أنك بطل الرواية والقصة من حيث لا تدري، البطل الضحية حيث لا مغزى من السرد والكلام رغم أنهما أساس القصة والرواية.
يشعر الناس بالملل من الكلام والحديث عن ظروفهم المعيشية التي تجاوزت وصفها بالصعبة وأصبحت مرعبة. وقد يكونون محقين في شعورهم هذا خاصة أنه بلا جدوى في نظرهم، فلا حلول في الأفق. ولا معالجة لأبسط المشاكل التي يعانون منها. حتى وإن كانت قابلة للحل جزئياً.
عندما يسقط جسر من السماء!
ليست كذبة ولا نكتة سمجة أطلقها أحدهم، وليست المرة الأولى ويبدو أنها لن تكون الأخيرة. جاء في التفاصيل: أعلنت وزارة الداخلية، الإثنين 26 آب الجاري، سقوط جسر مشاة عند نهاية المتحلق الجنوبي بدمشق جرّاء اصطدامه بمركبة شاحنة تحمل مركبة باكر (حفارة)، مما أدّى إلى وقوع الجسر على سيارة نقل ركاب (فان) ووفاة شخص وإصابة شخصين وتوقف حركة السير.
وذكر سكان قريبين من منطقة الجسر لبعض الوسائل الإعلامية، أنها ليست المرة الأولى التي يقع فيها هذا الجسر، وأنه «وقع قبل نحو 5 سنوات بعد أن ضربته شاحنة (قاطرة ومقطورة)»، وأن «المحافظة حينها اكتفت برفعه وإعادته إلى مكانه، دون أي إجراء إضافي على الرغم من حساسية مكانه واستخدامه بكثرة». ودعا العديد من المواطنين محافظة دمشق إلى «تشكيل لجنة متخصصة لفحص جميع الجسور الطرقية، والتأكّد من سلامتها بالتنسيق مع الجهات المرورية المختصة خصوصاً مع اقتراب العام الدراسي». حادثة سقوط جسر المشاة هذه ليست حادثة استثنائية في سورية، إذ تكررت هذه الحادثة في وقت سابق في مناطق أخرى.
ورغم تأكيد مصدر مسؤول في محافظة دمشق أن الجسر الذي سقط «سليم إنشائياً وفنياً» وهو منفذ منذ 20 عاماً ولم تكن فيه أية عيوب توحي بأنّ هناك مشكلة فنية، كاشفاً عن فتح تحقيق في الحادثة، إلا أن أخباراً أخرى تؤكد أن جسر المشاة سقط بسبب التعدي على أعمدته وسرقتها!!
محاولات لـ«قهر القهر»!
تذكرنا هذه الأخبار بحوادث أخرى جرت في وقت سابق وفي أماكن مختلفة، منها سرقة الكابلات الكهربائية التي أعلنت عنها وزارة الكهرباء في آذار الماضي، في خبر بدا حينها كدعابة مسلية مع المواطنين، أكدت فيه سرقة 100 طن من أمراس ألمنيوم فولاذ مع متممات السلاسل الحاملة للنواقل، وبقيمة 4 مليارات ليرة سورية.
حينها، بدا الخبر الذي نقل بيان وزارة الداخلية بعد فترة قصيرة من حادثة السرقة أيضاً كمزحة أو نوع من الفكاهة، إذ أكدت الوزارة في بيانها المقتضب والمرفق بفيديو يظهر حجم المصادرات أن «فرع الأمن الجنائي بريف دمشق قد ألقى القبض على عصابة سرقة الأمراس (الكابلات) الكهربائية (التوتر العالي) الواصلة بين محطة دير علي ومحطة عدرا على امتداد 36 كم، كما استرد أكثر من 30 طناً من الكابلات المسروقة، وجرى التحرز على 45 طناً من مادة الأعلاف ضمن إحدى المركبات التي استخدمت خلال السرقة»!. وأظهر تفاعل الناس وتعليقاتهم على الخبر الذي حمل جملة من الاستفسارات المشروعة، حول الـ 70 طناً الباقية ومصيرها المجهول، وما الذي جاء بالإعلاف لشاحنات المستخدمة في عملية السرقة!! إضافة إلى المعلومات التي تحدثت عن نقل الكابلات المسروقة وتوزيعها بين حلب والسويداء بتلك السرعة، والمحافظتان بعيدتان عن بعضهما! وتمرس المنفذون في التعامل مع خطر الكابلات الكهربائية، ثم السرقة التي تمت جهاراً نهاراً في موقع حيوي قرب العاصمة، وعلى امتداد 36 كيلومتراً، وهي مسافة كبيرة جداً بالنسبة لعملية سرقة واحدة!، أظهرت التعليقات واستخدام المزاح والفكاهة قدرة الناس ومحاولاتهم الجدية للتعامل مع أزمات لا يمكن حتى تصور حدوثها، «محاولة لقهر القهر» كما يسميها هنري برغسون.
تحمل هذه الأخبار محتوى كارثياً، السرقات والقتل والنشل والتسول وانتشار الفقر والبطالة والدعارة والمخدرات وارتفاع الجرائم بين الأحداث ومشاكل الطلاق والتفكك الأسري... إلخ، قد يراها البعض مجرد عناوين لأخبار يجري تداولها، لكنها في الحقيقة أصبحت مآسيَ وكوارث تنهش المجتمع.
عرس في القلعة!
في سورية فقط تتحول القلاع الأثرية إلى صالات أفراح. يقام حفل زفاف في قلعة دمشق، الألعاب النارية والأصوات القوية التي تشبه الانفجارات العنيفة، أيقظت النائمين وأرعبتهم، إذ ظنه الناس «عدواناً خـارجياً». ولكنه مثل أغلب المفارقات التي تحدث بشكل يومي، مجرد عرس جاء تنظيمه مُحاكياً لدخول طروادة من ناحية استخدام الديكور والكومبارس، اجتمع فيه «مواطنون» من طينة أخرى مختلفة عن طينة الأغلبية الساحقة من السوريين.
وكعادتهم تناول السوريون «العرس الأسطوري» في تعليقاتهم المختلفة بشيء من التساؤل والفكاهة، ليصبح هاشتاغ لعدة أيام. في البداية استغرب الناس المكان، وإذا ما كانت القوانين السورية تسمح بإقامة حفلات في الأماكن الأثرية؟! وجاءهم الرد من المدير العام للآثار والمتاحف، الذي بيّن أن هناك قراراً لكيفية استثمار أو استخدام هذه الأماكن الأثرية لأنشطة مختلفة، على أن يكون أي نشاط في هذا المكان لا يشكل أي خطر على هذا المبنى، والقرار يشمل التكاليف والأماكن المسموح بها والمعايير التي يجب التقيد بها من قبل المتقدم للحصول على ترخيص. وأوضح أن سورية تمتلك مواقع أثرية عديدة ومهمة، ولذلك: «إذا استطعنا أن نستثمر في التراث وجعل الكثير من المواقع الأثرية روافع اقتصادية فهذا شيء مهم».
أما بالنسبة لحادثة إطلاق الألعاب النارية، «فهي مخالفة ستتبعها عقوبات من جهة المديرية، وأن التحريات مستمرة!». كما بين أن المديرية اجتمعت مع أصحاب العرس وأكدوا أنه لا علاقة لهم بإطلاق الألعاب النارية ومن قام بذلك أحد الضيوف دون تنسيق معهم!
دافع المروجون عن العرس الذي حضره بعض من مجتمع «النخبة» من الفنانين والمشاهير وتضمّن فرقاً استعراضية وأزياء رومانية لحرّاس قلعة يستقبلون الضيوف، لأنه: «ساهم بإظهار سورية بأجمل صورة، وأعطى إشارة إلى عودة الأمن والأمان والاستقرار والفرح وساهم بدعم الترويج السياحي والثقافي». وتناسى هؤلاء ما يعانيه غالبية السوريين من أزمات معاشية وصلت إلى درجة لا يمكن وصفها بالكلمات، وإلى حدود تأمين اللقمة للبقاء على قيد الحياة بالمعنى الحرفي وليس بالمعنى المجازي للكلمة.
الوعي بالانقسام!
اللافت أن بعض التعليقات تناولت «الانقسام الطبقي الحاد بين السوريين»، والذي يظهره «العرس المليء بالترف والمظاهر الفارغة في قلعة تاريخية عريقة كان أساس إقامتها: الدفاع عن الشام وأهلها وفقرائها، في وقت يعاني فيه مئات الألوف من الناس من الفقر والفاقة، والقلة والعوز، والغلاء وقلة الموارد، وهجرة الطاقات الشابة والعقول الفذة؟!» حسب تعبيرهم.
يؤكد هنري برغسون في كتابه المعنون «الضحك»: «إننا لا نتذوق الهزل إذا كنا وحدنا، فالضحك يحتاج للصدى، أي إنه مرتبط بالجماعة، فاذا كان يمكن للبكاء أن يكون فردياً، فالضحك لا يمكن أن يكون إلا جماعياً». لا يتوقف السوريون عن الهمس والكلام والتعبير بشتى الطرق، وإن ملّوا أحياناً. ولكنها طريقتهم الخاصة لإظهار الغضب المكبوت في الصدور فهذه البلاد بلادهم وقلعة دمشق قلعتهم، وكما دافعت عنهم يوماً سيدافعون عنها ويستعيدونها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1190