مَن هم «صنّاع التاريخ»؟ دور الفرد والجماهير...
إعداد: ناجي النابلسي إعداد: ناجي النابلسي

مَن هم «صنّاع التاريخ»؟ دور الفرد والجماهير...

يمكن فهم دور الشخصيات التاريخية التي تبرز على مسرح التاريخ ونشاطاتها على أنها حصيلة مشتركة لتفاعل الضرورة والمصادفة في التاريخ. هذه الفكرة كانت محور مراجعة نظرية نُشرت في مجلة «الفكر النقدي الأممي» أواخر العام 2019، بقلم باحثين مختصين بدراسة الماركسية في كل من جامعة الأكاديمية الصينية للعلوم الاجتماعية (بكين)، وجامعة (فوجو) الصينية.

هدفت المراجعة النظرية المذكورة، التي كتبها إنفو تشينغ وجيهوا جان، إلى فهم ديالكتيكي للعلاقة بين «الأبطال» و«العصور» في التاريخ، تحت عنوان «تأويل مادي تاريخي جديد لدور الشخصيات التاريخية: بصدد مفهوم (صناع التاريخ) بمعنى واسع». وفيما يلي عرض لبعض الأفكار التي وردت فيها (بتصرّف).

ما هو التاريخ؟

يمكن التمييز بين «التاريخ الموضوعي» و«التاريخ المكتوب». فالأول هو العملية الموضوعية لتطور المجتمع البشري، أما الثاني فهو تسجيل ودراسة الأول. و«التاريخ» الذي نقصده عندما نتكلم عن «صُنّاع التاريخ» إنما هو التاريخ الموضوعي، وفيما يتعلق بتأريخ سير الشخصيات التاريخية، يمكن تقييم مدى نزاهة وعلمية «المؤرخين» بمدى اقترابهم من، أو ابتعادهم عن، تصوير التاريخ الموضوعي لتلك الشخصيات. ولكن كيف تتشكل «العملية الموضوعية» للتاريخ؟
في إحدى رسائله الشهيرة حول المادية التاريخية (إلى يوسف بلوخ، 21 أيلول 1890) يكتب فريدريك إنجلس:
«يُصنَع التاريخ بنحوٍ تحصل معه النتيجة النهائية دائماً من تصادم كثرة من الإرادات الفردية، مع العلم أن كلاً من هذه الإرادات تصبح ما هي عليه بالفعل، وذلك من جديد بفضل طائفة من الأحوال الحياتية الخاصة. وهكذا يوجد عدد لا يحصى من القوى المتشابكة، مجموعة لا نهاية لها من متوازيات أضلاع القوى، ومن هذا التشابك تنجم قوة محصلة واحدة هي الحدث التاريخي. وهذه النتيجة يمكن اعتبارها أيضاً نتاج قوة واحدة تفعل فعلها ككل واحد، بلا وعي ولا إرادة. ذلك أنّ ما يريده امرؤٌ يلقى المعارضة من جانب أيّ امرئٍ آخر، وتكون النتيجة النهائية ظهور شيء لم يرغب فيه أحد. وعلى هذا النحو يسير التاريخ، كما سار حتى الآن، أشبه بتطور طبيعي، ويخضع، من حيث جوهر الأمر، لنفس قوانين الحركة. ومن هذا الواقع، وهو أن إرادات مختلف الأفراد الذين يريد كل منهم ما تدفعه إليه بنيته الجسدية والظروف الخارجية، أي الاقتصادية في آخر المطاف (أو ظروفه الخاصة الشخصية أو الاجتماعية العامة) – إن هذه الإرادات لا تبلغ ما تريده، بل تتمازج في شيء وسط، في قوة محصلة مشتركة واحدة. من هذا، لا يجوز مع ذلك الاستنتاج أن هذه الإرادات تساوي صفراً. بل بالعكس، فإن كل إرادة تشترك بنصيبٍ لها في القوة المحصلة وتكون جزءاً منها».
إنّ إرادات فردية وقوى متنازعة لا تعد ولا تحصى، تكون مختلفةً ليس في اتجاهات حركتها فحسب، بل وفي قوّتها أيضاً. ورغم أنّ كلاً منها تساهم بالمحصلة النهائية، فإنّ تلك التي لها قوة نسبية أكبر يكون لها بالفعل التأثير الأعظم. ومن هنا تَكتسبُ أهميتَها المساهماتُ المميزة للشخصيات التاريخية في صناعة التاريخ.
وفي أثناء العملية تكتنف المصادفاتُ تشكيلَ وحركةَ الحصيلة التاريخية، ولذلك لا يسير التاريخ بخط سلس انسيابي، بل في «حركة ترتقي من أدنى إلى أعلى، تشقّ طريقها عبر كل الحركات المتعرّجة والنكسات المؤقتة» - (إنجلس، لودفيغ فورباخ ونهاية الفلسفة الألمانية الكلاسيكية).
وفي فترات تاريخية معيّنة، عندما تتفوق القوى الرجعية على القوى التقدمية، فإنّ العملية الموضوعية للتاريخ تبدي هبوطاً مؤقتاً ضدّ الاتجاه العام (المَيل) التقدّمي طويل المدى للتطور الاجتماعي، ويتخذ سير التاريخ في مثل تلك الفترات على الأرجح طابعاً متعرّجاً (زكزاك). فالتغيرات التاريخية يجب اعتبارها حصيلةً للصراعات والتسويات بين التقدميين والرجعيين – بما فيهم عدد لا يحصى من القوى والشخصيات التاريخية والناس العاديين أيضاً.

هل الجماهير «الصانعة الوحيدة» للتاريخ؟

في حين ينزلق بعض الباحثين إلى خلاصة تجريدية تحكم بالمطلق بأنّ «الجماهير هي الصانع الوحيد للتاريخ»، غير أنّ الأصح توسيع معنى مقولة «صانع التاريخ» لتأخذ بالاعتبار الدور الذي لا يمكن إنكاره للأفراد البارزين الذين يغتنمون الفرص التاريخية المؤاتية، من سياسيين وقادة وعقول كبيرة وعلماء وفنانين...إلخ، حيث يلعبون دوراً في التاريخ لا يمكن اختزاله تفسيرياً في مقولة «الجماهير»، مع الانتباه إلى أهمية عدم التغاضي بالمقابل عن حقيقة أنّ القوى الضخمة التي تصنع تاريخ التطور المادي والاقتصادي والسياسي والفكري والروحي والثقافي والعلمي...إلخ، لا شكّ في أنها مشتقة في نهاية المطاف من الجماهير سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر.

الصدفة والضرورة في صناعة التاريخ

على الرغم من كون نشاطات الشخصيات التاريخية يمكن أن تكون تقدمية أو رجعية، غير أنّ الناس لا يستطيعون جعل صناعة التاريخ على هواهم ورغبتهم، بل فقط ضمن الحدود التي تسمح لهم بها الظروف الموضوعية. وهذه الأخيرة تحتوي على ضرورات ومصادفات. وصعود أو بروز شخصيات تاريخية معيّنة على مسرح التاريخ، وأفعالهم وتصرفاتهم، حصيلةٌ للتأثيرات المركَّبة للحتميات والمصادفات التاريخية، علماً بأن مصادفات ظهور شخصيات تاريخية وأفعالها يمكن أن تتحوّل ديالكتيكياً إلى ضرورات تحت شروط معيّنة. كتب بليخانوف بأنّه «كانت هناك دوماً شخصيات بارزة تظهر طالما توجد الشروط والفرص التاريخية التي يمكنها تيسير أداء هذه الشخصيات لمواهبها»، ومن هنا جاء تعبير «إنّ البطل ليس سوى نتاجٍ لعصره».
هذا ينطبق كذلك على ظهور بعض الشخصيات الرجعية في التاريخ، حيث يكون ظهورها تابعاً للميل التاريخي العام في ظل ظروف تاريخية محدّدة، كما علّق ماركس مثلاً على ظهور نابليون الثالث: «كيف أنّ الصراع الطبقي في فرنسا خلق ظروفاً وعلاقات جعلت شخصاً عاديّ المقدرات، وغريب الأطوار على نحو مضحك، يلعب دور البطل».
إنّ أفعال وتصرفات الشخصيات التاريخية مقيدة بالشروط التاريخية والاجتماعية. بمعنى أنّ الضرورة التاريخية سوف تنعكس بالتأكيد عليهم بطرقٍ شتى، فهناك «محدودية تاريخية» لأيّ شخصية تاريخية مهما عظمت.
هناك تعبير دارج يقول «العصور تصنع الأبطال» وتعبير آخر يقول «الأبطال يصنعون العصور». التعبيران كلاهما صحيحان في إطار تفسير معيّن لمعنى «العصور». فالقول الأول صحيح باعتبار المقصود بالعصور الظروف الاجتماعية والتاريخية على المستوى الكلّي، والقول الثاني صحيح باعتبار المقصود بالعصور الشروط الخاصة التي يصنعها الأبطال على مستوى جزئي، والتي تمهد الطريق لكي تتم التغييرات التاريخية الضرورية ويسري مفعولها.
إنّ العوامل الشخصية يمكنها أن تلعب بأحسن الأحوال دور عنصر يعزز التطور التاريخي في ظل ظروف معينة، وبالتحديد في زمان ومكان معيَّنين ضمن بنية تاريخية وعلاقات تاريخية معيَّنة. وعندما تتجاهل شخصية تاريخية شروط زمانها التاريخية، أو المحلية أو الإقليمية أو الدولية أو أكثر من واحدة من هذه المستويات معاً، فإنها تُمنَى بالفشل والهزيمة عاجلاً أم آجلاً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1180
آخر تعديل على الأحد, 23 حزيران/يونيو 2024 20:43