من آراء غرامشي في التربية والتعليم...

من آراء غرامشي في التربية والتعليم...

يرى غرامشي أنّ «المَدرسة» أيْ النشاط التعليمي المباشر «ليست سوى جزءٍ صغير من حياة التلميذ الذي يتّصل بكلٍّ من المجتمع البشري وبما يسمّى عالَم الأشياء (sociitas rerum) وتتشكل لديه من هذه المصادر الـ(خارج-مدرسيّة) معاييرُ أكثر أهمية بكثير مما يُظَنّ بشكلٍ شائع».

ويرى غرامشي بأنّ المدرسة التي تجمع بين النشاط «اليدوي» -بمعنى العمليّ- والذهني لها أفضليةُ أنّها «تجعل الطفل على اتصال مع التاريخ البشري وتاريخ (الأشياء) تحت سيطرة المعلِّم في الوقت نفسه».
بالمقابل فإنّ من مذاهب التربية والتعليم التي انتقدها غرامشي، تلك التي تنتهج «العفوية» في التربية، وكأنها تتخيل عقل الطفل «خصلة شعر» متشابكة، وما وظيفة المعلّم سوى أن يساعد في حلها وتسريحها. في حين «لم تؤخذ في الاعتبار حقيقة أنه منذ أن يبدأ الأطفال في الرؤية واللمس، وربما عندما يبلغون من العمر بضعة أيام فقط، فإنهم يراكمون الأحاسيس والصور التي تزداد تعقيداً مع اكتساب اللغة». (دفاتر السجن، الدفتر1، الملحوظة 123).
وقد ذكر غرامشي هذا الانتقاد كمأخذٍ على التقليد الروسويّ (من جان جاك روسو) الذي أثّر في المذاهب السويسريّة بالتربية والتعليم، مع أنّ غرامشي في الوقت نفسه أقرّ بأنّ هذا الاتجاه حقق تقدّماً بالمقارنة مع التعصّب وضيق الأفق في التعليم الكنسي التقليدي السابق، فكتب غرامشي: «كانت أفكار روسو ردَّ فعلٍ عنيفاً ضدّ طرائق التدريس والتعليم الجزويتية، وبذلك مثّلت خطوة إلى الأمام». ولكنها بعد ذلك أقامت هي نفسها، كما يتابع غرامشي: «نوعاً من الكنسيّة التي شلّت الدراسات التربوية وولّدت جوانب نُكوصٍ مثيرة للفضول».

تربية «قادة» أفراد أم طبقة قياديّة؟

يعلّق غرامشي (في دفتره التاسع، الملحوظة 119) على معلومات بشأن المدارس في أوروبا بدايات القرن العشرين – والتي قرأ عنها في كتاب كارلتون ووشبورن «مدارس جديدة في العالَم القديم، نيويورك 1930»، فيذكر غرامشي: «مدرسة أوندل العامّة هي من أقدم المدارس الإنكليزية، تختلف عن المدارس الأخرى التي من النوع نفسه في شيء واحد فقط، وهو أنها إلى جانب الدورات النظرية في المواد الكلاسيكية، أنشأت دورات يدوية وعملية، حيث يتعين على جميع الطلاب الاختيار بين ورشة الآلات ومختبر العلوم. يصاحِبُ العملَ اليدوي عملٌ فكري، وعلى الرغم من عدم وجود علاقة مباشرة بين الاثنين [في تلك المدارس]، إلا أنّ التلاميذ ما زالوا يتعلمون كيفية تطبيق معارفهم وتطوير قدراتهم العَمليّة».
بعد ذلك يذكر غرامشي الملاحظة التالية: «يوضح هذا المثال مدى ضرورة إعطاء تعريف صحيح لمفهوم المدرسة العامة التي يرتبط فيها العمل والنظرية ارتباطاً وثيقاً فيما بينهما - فالتجاور الميكانيكي بين النشاطَين يمكن أن يكون مجرَّد مُباهاة فارغة؛ حيث يَسمع المرءُ أنّ بعض المثقفين العظماء يقومون على سبيل التسلية بتشغيل المخارط، وصنع الأعمال الخشبية، وتجليد الكتب، وما إلى ذلك... ولكن لا يمكن القول إنّ هذه أمثلة على وَحدةِ العَمَل العقليّ واليدويّ، فالعديد من هذه المدارس الحديثة تتبنَّى في الواقع أسلوباً متعجرفاً لا يحتوي على شيء -إلّا سطحياً- فيما يتعلق بقضية إنشاء نوع من المدارس لتعليم الطبقات الخادمة والتابعة [المُستَضعَفة] أن تقوم بدور قيادي في المجتمع كطبقةٍ بأجمَعها وليس كأفراد منفردين».
من اللافت هنا أن نلاحظ بأنّ جوانب سلبية من التي انتقدها غرامشي في هذه الطريقة البرجوازية في مناهج «المدارس المهنية العامة» لتربية وتعليم أبناء الطبقات المنتجة (الأغلبية الفقيرة)، ما زالت موجودة في يومنا هذا. وحتّى أنّ ملاحظته بخصوص الحرص البرجوازي على أن تخرّج هذه المدارس قادةً «أفراداً» مُختارين يناسبون احتياجات الرأسمالية، وليس أن تربّي الطبقة الكادحة تربيةً جماعية لكي تطوّر مهارات قيادية جماعية لها كطبقة – لعلّ ملاحظة غرامشي هذه تبرز اليوم بشكلٍ أكثر حدّة إذا ما أخذنا بالاعتبار ما أدخلته الليبرالية الجديدة على أنماط التربية والتعليم من تعزيز إضافي وتضخيم للفردانية والتشجيع للخلاص الفردي البحت وليس لقيم التعاون والجماعية.

انتقاد مدرسة «مونتيسوري»

يتحدث غرامشي بعد ذلك عن نموذج مدرسة ستريثام هيل الثانوية الحكومية للبنات جنوبيّ لندن، وكانت مديرتها قد التقت بالمعلمة التربوية الشهيرة ماريا مونتيسوري وتأثرت بها، فتبنّت أفكاراً مثل السماح للأطفال بتنظيم برامجهم الخاصة لجزء من اليوم من المدرسة الخاصة في دالتون، ومن هنا جاء اسم «نظام دالتون».
فكتب غرامشي: «تطبق مدرسة ستريثام هيل الثانوية للبنات نظام دالتون، الذي يسميه فيراندو (تطويراً لطريقة مونتيسوري)، حيث للفتيات الحرية في متابعة الدروس العملية والنظرية التي يُردْنها طالما، في نهاية كل شهر، ينفّذن البرنامج المخصص لهن. فالانضباط الصفي ترك بأيدي التلاميذ. إنّ هذا النظام فيه عيب كبير وهو أنّ الطلاب بشكل عام يتركون واجباتهم حتى الأيام الأخيرة من الشهر مما يضرّ بجدّية المدرسة ويشكل إزعاجاً كبيراً للمعلّمين الذين يضطرّون إلى مساعدتهم وهم في حالة ارتباك... بينما في الأسابيع الأولى ليس لديهم سوى القليل للقيام به أو لا شيء على الإطلاق. إنّ نظام دالتون ليس أكثر من توسيع لطريقة الدراسة المتبعة في الجامعات الإيطالية بحيث شملت المدارس الثانوية، والتي تترك للطالب كل الحرية في الدراسة. ففي بعض الكليات يقدّمون عشرين امتحاناً في السنة الرابعة بالجامعة، ثم يحصلون على شهادتهم في الوقت الذي لا يعرف فيه الأساتذة الكثير عن طلابهم».

تساؤلات حول مَدرسة بلا مقرّرات...

في نص الملحوظة نفسها من دفاتر سجنه يذكر لنا غرامشي المثال الآتي من كتاب ووشبورن آنف الذكر: «في قرية كيرسلي الصغيرة، قام إي. إف. أونيل بتأسيس مدرسة ابتدائية تم فيها إلغاء أيّ (مقرَّر دراسيّ ثابت)... يحاول المعلم فهم ما يحتاج الأطفال إلى تعلّمه ثم يبدأ بالتحدث عن هذا الموضوع المحدد، بهدف إثارة فضولهم واهتمامهم؛ وبمجرد أنْ ينجح ذلك، يتركهم ليتابعوا بأنفسهم، ويقصر مهمّته على الإجابة على أسئلتهم وتوجيههم في أبحاثهم. إنّ هذه المدرسة، التي تمثل ردَّ فعلٍ ضد جميع أنواع الصيغ، وضد التعليم العقائدي الجامد، وضد الميل إلى تحويل التعليم إلى شيء ميكانيكي قد (أعطت نتائج مذهلة). الأطفال متحمسون للغاية للدروس لدرجة أنهم يبقون في المدرسة أحياناً حتى المساء، ويتعلقون بمعلميهم ويتأثرون بهم أخلاقياً، فيصبحون رفاقهم بدلاً من أن يكونوا معلمين مستبدّين. وعلى المستوى الفكري أيضاً، فإنّ تقدمهم أكبر بكثير من تقدّم تلاميذ المدارس العادية».
فماذا كان رأي غرامشي بهذه الطريقة التربوية؟ لقد كتب الآتي: «كتجربة، إنها مثيرة للاهتمام للغاية، ولكن هل يمكن تعميمها؟ هل يمكن العثور على عددٍ كافٍ من المعلّمين لتحقيق الغاية؟ وهل ستكون هناك أحداث غير مرغوب فيها لم تتم الإشارة إليها هنا؟ على سبيل المثال، الأطفال الذين يضطرون إلى مغادرة المدرسة وما إلى ذلك؟ يمكن أن تكون مدرسة للنخبة أو نظاماً (لما بعد المدرسة) يحلّ محل الحياة الأسرية».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1178