«سبات شتوي» الفيلم الفائز.. جنّة النار
تكلّل إجماع نقّاد السينما الدوليين واستحسانهم جديد التركي نوري بيلجي جيلان «سبات شتوي» مع قناعات أعضاء لجنة تحكيم الدورة الـ67 لمهرجان «كانّ» السينمائي (14 ـ 25 أيار 2014)، ليُتوِّج نصّاً باهراً وخاطفاً بجمالياته البصرية بـ«سعفة ذهبية»، مُعلنين انتصارهم لـ«مسرحة سينمائية» مُحكمة الصنع وعميقة الدلالات لنيات بشر معزولين بأنانياتهم وغلوّهم وشراستهم.
يستكمل هذا العمل أجواء سابقه «مواسم» (2006)، حيث عُروَة زوجية مصدّعة، وأرواح مكلومة تغلّظ على كيانين شابين، يعيشان مرحلة نهائية من علاقتهما المتحوّلة مع تنقّل المواسم. خراب الشراكة بين بهار وعيسى ينعكس بصرامة على محيط بهيّ، ويخدشه بعنف. تسعى الأولى إلى الحصول على كرامة زوجية، إثر اكتشافها خيانة رجلها مع إحدى قريباتها. في «سبات شتوي»، يستعيد جيلان الجفوة الزوجية، لكن بوسع درامي مجيد يبثّ الحياة في «عقيدة تشيخوف» الدرامية، حيث الخيبة شاخصة، والانتقام مركون عند القلوب. لا سكاكين تُستخدم ولا رصاصات، بل سيل هادر من الكلام، واعترافاته ومناكفاته و«مسبّاته».
وسط معمار فاتن لمنطقة «كابادوكيا» الشهيرة بصخورها الرخوة وكهوفها، وفي صقيع شتاء قارس، تشتعل نيران التناغص بين ثلاث كينونات، تجمعها جدران غرف فندق «عطيل»، وتفرّقها أهواء ذاتية وتبرّمات ومعاقبات. يرى البطل الممثل المتقاعد إيدن (هالوك بيلغنير)، مالك النزل الشهير ومديره، في جفاء زوجته نهال (مليسا سوسان) ذريعة لعزلته وقسوته اللاحقة تجاه الآخرين، بينما تصبح شقيقته المطلّقة نائلة (ديميت أكباق) تأثيماً قاسياً على أُوتوقراطيَّته، وتنعته بـ«رجل لا يطاق». الحجارة التي يرميها صبيّ على سيارة تنقّله بين ممتلكاته، يصبح مجازها الدرامي أكبر من تهشم زجاج نافذتها. إنها الإيذان بنزال محموم بين طبقية نذلة لا هوادة في احتقارها بشر حضيض اجتماعي، هم عائلة ربيب السجون والسكّير اسماعيل وشقيقه إمام المسجد حمدي. يستقوي إيدن بقرار محكمة لإخراج العائلة من دارته المؤجّرة لها، بعد تخلّفها عن سداد الإيجارات، لنشهد على جلسات خزي ومهادنة بطلها حمدي الذي يدفع بالصبي إلى الاعتذار عن فعلته، لكن بدلاً من فتح فمه، ينهار مغشياً عليه، إشارة إلى أن حجارته لم تصب سوى فؤاده وعزّة نفس أهله.
على مدى 196 دقيقة، صبّ جيلان (ومعه شريكته في كتابة النص زوجته إيبرو) غضباً دفيناً على نموذج بشري متسلّط، تصفه زوجته بأنه «متغطرس، وبخيل، وكاره للبشر»، بالإضافة إلى جبنه الذي يدفعه إلى التحوّط من غضب الآخرين بظهر مساعد وفيّ لا يتوانى عن منازلة أيّ مخاصم صوناً لمكانة رئيسه وإرضاء لغروره. يتجلّى عتوّه بقبح عارم في مشهد اجتماع الزوجة مع أعيان البلدة لمناقشة تبرّعات مالية لتحسين وضعية مدارس المنطقة، لنرى إيدن وهو يتلصّص كإبليس يربط عفّتها مع رائحة المال، قبل أن يسعى إلى إهانتها بتقديم مبلغ دسم للصندوق، على الرغم من رفضها وإشارتها إلى «دنس نقوده»، التي تقدّمها لاحقاً كـ«فدية» إلى عائلة اسماعيل، لتغطية مستحقّات كرائها. والأخير يرفضها ويحرق أوراقها، إعلاناً لحرية موؤودة.
«سبات شتوي» قائم على مطارحات طويلة، وعلى بنيان تراكمي للأفكار. كل شخصية تمثّل جوانيّة خاصّة. ففي مقابل لؤم إيدن الساعي إلى توثيق المسرح التركي بموسوعة عظيمة لا يملك منها سوى عنوانها، تكون شقيقته الملولة وجهاً مدينياً للشجن والخسران، تحسب أيامها بعدد خصوماتها، بينما تترسم الزوجة الشابة رحماً يابساً، عديم النبض. يحيلها عقمها إلى ماكينة تنتج كَماً وافراً من النقّ والدموع والنزق، قبل أن يستكمل اسماعيل، عندما يطردها من بيته، دائرة مهاناتها وهوانها. يواجه الثنائي جيلان موات هذه الذمم وتوالي انهياراتها، باحتفاء بصري بانورامي مفخّم ومدهش لطبيعة خلاّبة (تصوير كوكهن تيرياكي)، تتوارى تحت روعتها وعظمة خالقها رزايا بشرها وبلاوي تقودهم إلى تدمير جماعي قصدي، يقتل عزومهم ويحوّلهم إلى طواطم تسكن جحوراً، تستقطب سياحاً يابانيين يكرّرون إعجاباً بجنّة نائية في قلب الأناضول، من دون أن يلتفتوا إلى سواد قلوب قاطنيها وكرب نفوسهم، حيث المصافاة والصبابات والألفة والحق والبهجات في سبات دهري مديد.
المصدر: السفير