كاميلا رافيرا... أوّل امرأة تقود حزباً
وُلدت كاميلا رافيرا عام 1889، وقادت الحزب الشيوعي الإيطالي خلال سنواته الصعبة الأولى في ظل الطغيان الفاشي. وتُظهر قصتها كيف أصبحت طليعةٌ من النساء قائدات سياسيّات من خلال ربط تحرّرهن بقضية تحرير الطبقة العاملة ككل. عندما كانت طفلة في الثامنة من عمرها، وبينما كانت تسير مع والدتها في شوارع بيدمونت، وجدت كاميلا نفسها وجهاً لوجه مع مظاهرةٍ حاشدة لنساء يسرن خلف عَلَمٍ أحمر كبير.
كانت لرحلة رافيرا السياسية جذور عميقة في حياتها العائلية. وتروي أنّ حادثة المظاهرة النسائية للعاملات المضربات عن العمل عالقةٌ في ذاكرة طفولتها، حيث كانت كاميلا الصغيرة خائفة من هتافاتهن: «أدركت أمّي أنني كنت خائفة، فأخبرتني أن هؤلاء النّسوة يعملن في صَقل الذهب، واحتجَجن على أنهن لا يستطعن تحمل تكاليف تناول الطعام حتى عندما يعملن 12 ساعة يومياً، وأن أيديهن تتلف بسبب الحمض الذي يستخدمنه لتلميع الذهب. أخبرتني أنه لا ينبغي لي أن أخاف من العمال المضربين... سألتها إلى أين يذهبن ولماذا يسرن خلف ذلك الرجل؟ فأجابت بأنها لا تعرف، ولكن الرجل الذي يمسك بالعلم الأحمر هو فيليبو توراتي، مؤسس الحزب الاشتراكي الإيطالي».
كان لموقفها الثوري جذور عميقة في عائلتها بأكملها. وكما لدى العديد من أبناء جيلها، شكّلت العواقب المأساوية للحرب العالمية الأولى دافعاً للعمل السياسي؛ توفي أحد أخوتها، جوزيبي، في الجبهة، بينما أصيب الآخر، فرانشيسكو، متسمّماً بالغاز. وفي عام 1918، تم تجنيد الأخ الثالث، سيزار، وإرساله إلى الخنادق. وكعضو في الحزب الاشتراكي الإيطالي، كلَّفَ سيزار كاميلا بالذهاب إلى مكتب فرع تورينو لدفع اشتراكاته الشهرية لدعم الحزب. وهكذا اقتربت رافيرا من الدوائر الاشتراكية. وسرعان ما قامت بالانتساب بنفسها، وبدأت في تكريس وقتها الدائم للنشاط الاشتراكي.
لقاؤها بغرامشي
انتقلت كاميلا للتدريس في تورينو، وسرعان ما جذبت كتاباتها انتباه أنطونيو غرامشي، الذي لعب دوراً حاسماً في توجيهها نحو دور قيادي في الحزب الشيوعي المولود حديثاً. لقد عهد إليها في البداية بمسؤولية قسم مشهور في (النظام الجديد/أوردين نوفو) - الصحيفة الأسبوعية التي أسسها غرامشي وسط احتلال المصانع بعد الحرب العالمية الأولى وصعود الفاشية. ثم دعاها في تموز 1921 للانضمام إلى فريق تحرير الصحيفة: «تحدّثتُ مع غرامشي قليلاً، وفي نهاية المحادثة أخبرني أنه يريد منّي المشاركة في عمل فريق التحرير. ورغم خجلي، حاولت ذكر أعذارٍ تافهة لعدم قبولي؛ الأسرة، المدرسة، قلة الخبرة... ولكن بعد أن استمع بصبر إلى هراءاتي، قال: أطلب منك رسمياً الانضمام إلى هيئة التحرير».
لم يختر غرامشي رافيرا لمجرد إخلاصها، بل ولقدراتها التنظيمية وسلطتها. أظهر كلٌّ منهما قدرة نادرة على الإصغاء الجيّد، ورغبة صادقة في فهم مزاج الطبقة العاملة وتطلعاتها. وكان هذا يعني التصميم على إعطاء شكلٍ منظم للنضالات لا يعتمد على تفضيلات المثقَّف، بل على رغبة العمال وقدرتهم على تحرير أنفسهم.
في عصرٍ كان يصعب فيه أن تشارك المرأة بنشاط في الحياة السياسية والاجتماعية، حققت رافيرا اختراقاً كبيراً، ولا شكّ في أنّ الصعود العامّ الثوري والشعبي هيّأ الإمكانية الموضوعية لذلك. لم تطلق رافيرا على نفسها مطلقاً اسم «النسوية» ولكنها كانت دائماً «مراقبة يقظة لظروف النساء المعيشية» ومشكلاتهن الاجتماعية. ولم يكن صعودها سهلاً، نظراً لتصرّفاتها الخجولة. وتذكرت أنها لم تكن قادرة على التحدث علناً لفترة طويلة، بسبب الإحراج. ويقال إنّها طلبت التحدّث أمام حشد علناً للمرة الأولى لتوضيح وجهة نظرها بسبب خلافٍ مع أحد الرفاق.
ظنّها الفاشيون رَجُلاً
يكتب لورينزو ألفانو في مجلة «اليعاقبة»، بأنه في ظهيرة العاشر من تموز 1930 في بحيرة ماجوري، على حدود إيطاليا الفاشية مع سويسرا، ترجّلت امرأتان من زورق ذي مجاذيف ليستقبلهما رَجلٌ عند وصولهما إلى اليابسة. توقّع الثلاثة أن يلتقوا بمناضلين آخرين في تجمع سرّي استغرق شهوراً من التخطيط. لكن اللقاء لم يتم. فقد قام جاسوس بإبلاغ أجهزة أمن بينيتو موسوليني التي اعتقلت الرفاق الثلاثة واقتادتهم إلى الزنازين.
قالت إحدى المرأتين للضابط: «اسمي كاميلا رافيرا». وهكذا تمكّن النظام الفاشيّ من اعتقال رافيرا، الأمين العام للحزب الشيوعي الإيطالي، بعد مطاردة استمرت ثماني سنوات، ظلّت رافيرا تعمل خلالها تحت أسماء مستعارة، منذ أن منعها الفاشيون من ممارسة مهنة التدريس. في السنوات الفاصلة، كانت كاميلا تلعب دور «سيلفيا» ثم «ميشيلي»، لتصبح شبحاً لنفسها - حيث نجحت بإخفاء هويّتها لدرجة أنّ الشرطة الفاشيّة لم تساورها أيّ شكوك بأنّ «ميشيلي» الشهير لا بدّ وأن يكون رجلاً!
بوجهها الصارم وجسمها النحيل، كانت رافيرا البالغة من العمر أربعين عاماً تُلقَّب في كثير من الأحيان (مايسترينا) وتعني (المعلّمة الصغيرة)، رغم أنّ هذا التصغير لم يتناسب البتّة مع شخصيتها العظيمة. فوراء مظهرها المُسالِم وصوتها الهادئ كانت تكمن شخصية فولاذية. كانت كاميلا امرأة تحمّلت عبء الحفاظ على تماسك الحزب الشيوعي عندما كان يتعرّض لهجوم شرس متواصل من البوليس الفاشي. الحزب الذي كاد أن يختفي لولا إصرار مجموعته القيادية، رفاق قائده التاريخي غرامشي: بالميرو تولياتي، أومبرتو تيراسيني، ألفونسو ليونيتي، فيليس بلاتوني، وكاميلا رافيرا، التي أصبحت الأمين العامّ للحزب الشيوعي الإيطالي، وهو أعلى منصب فيه عام 1927.
«طيور الفلامينغو»
خلال السنة السابقة لذلك، وفي مواجهة حظر الحزب واعتقال غرامشي، أظهرت رافيرا مواهبها التنظيمية العظيمة. في هذه الفترة، بدا وضع الحزب الشيوعي يائساً للغاية - لدرجة أن الجناح اليميني للحزب برئاسة أنجيلو تاسكا تبنّى موقفاً انهزامياً، مقترحاً حلّ الحزب وحثّ المناضلين على الانكفاء إلى حياتهم الخاصة. ومع ذلك، تمّت مواجهةُ هذا التيّار (التصفوي) على الفور بمقاومةٍ حازمةٍ من رافيرا، فبدأت بإعادة تنظيم الاتصالات بين المجموعة القيادية وفروع الحزب النائية التي قطّع النظام الفاشي أوصالها. واستَخدَمَتْ في هذا العمل ما يسمى بـ«طيور النُّحَام» أو «فلامينغو» وهم مناضلون اختيروا ليكونوا غير معروفين فلا يثيرون شكوك الشرطة، وكُلّفوا بمهمّات إيصال الوثائق والرسائل عبر مناطق مختلفة من إيطاليا. في الفترة نفسها، نظمت رافيرا المقر الرئيسي للحزب في منزل ريفي صغير خارج جنوة، وعملت على إعادة بناء مجموعات العمل حول الأمانة العامّة. وهكذا أصبح هذا المنزل خليّة نحلٍ للشيوعيين السرّيين، وسيطلق عليه الكاتب إغناسيو سيلون اسم «فندق الفقراء».
«الرفيق الهادئ المهذَّب»
كان هذا بلا شك عملاً مرهقاً لكاميلا، التي اضطلعت بالكثير من المهام، مثل ضمان توزيع الصحافة السرية، والاجتماعات السرّية في جميع أنحاء إيطاليا، والسفر إلى باريس للتواصل مع القادة الآخرين في المنفى، حتى أنها شاركت في المؤتمر السادس للكومنترن (الأممية الشيوعية) في موسكو عام 1928 في عهد ستالين الذي وصفتْهُ ريفيرا بأنه الرفيق «الهادئ والمهذَّب دائماً». وهناك عُرض عليها الانتقال الدائم إلى العاصمة السوفييتية للعمل في «الأمانة العامة للمرأة الأممية». ولكن رافيرا رفضت وأصرّت على مواصلة نشاطها ضد النظام الفاشي داخل إيطاليا.
وبعد اضطرارها للّجوء مؤقتاً إلى سويسرا، عادت عبر الحدود في أيار 1930، ليتم القبض عليها بعد شهرين بالقرب من بحيرة ماجوري، ويحكم عليها بالسجن لمدة 15 عاماً. وقضت رافيرا بقية الفترة الفاشية منقولةً من سجن إلى آخر في ظروف مروّعة. بلغت هذه الأوقات العصيبة ذروتها في آب 1939 عندما حدثت قطيعة مع رفاقها، حيث تمّ طردها من الحزب في كونفينو (المنفى الداخلي) في فينتوتيني، بسبب خلافاتها مع الشيوعيين المعتقلين الآخرين حول اتفاق مولوتوف-ريبنتروب. ولم يُحَلّ الخلاف إلا عام 1945 حيث أعيدت ريفيرا لصفوف الحزب.
الانتصار والتئام الشمل
روت الصحفية ميريام مافاي هذه اللحظة، حيث وصل تولياتي الذي كان في هذه المرحلة الأمين العام للحزب، إلى مقر الحزب في تورينو، محاطاً بالرفاق والحزبيين الذين يحتفلون بالانتصار على الفاشية التي أُسقِطَت للتوّ، فنظر حوله وسأل: «وأين هي رافيرا؟». فأجاب أحدهم، محرجاً، بأنها لم تكن موجودة، ولا تستطيع الحضور لأنها لم تعد في الحفل. فأجاب تولياتي: «لا بدّ أنك تمزح! أحضرْ رافيرا إلى هنا ولا مزيد من الحديث عن حماقاتٍ كهذه».
وتتذكّر كاميلا رافيرا: «بالنسبة لنا، كان لقاءً مؤثراً، لقد احتضنّا بعضنا في صمت. لم نر بعضنا منذ أكثر من 13 عاماً». ومن دون أي نقاش أو ضجة، تمت إعادة الاعتبار لرافيرا على الفور، ودعوتها للانضمام مرة أخرى إلى اللجنة المركزية للحزب، قبل انتخابها لعضوية البرلمان في عام 1948، حيث تابعت نشاطها السياسي واضعةً اسمها على العديد من مشاريع القوانين التي ركّزت على حماية الأمهات والمساواة في الأجور بين النساء والرجال.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1166