الضرورة أُمّ الفنون... (الجزء الثاني: الدماغ الاجتماعي)
يحمل الإنسان بداخله مشاعر فائضة، لا نهائية في تجدُّدها، تزيد أو تنقص بحسب طبيعة كل مرحلة تاريخية. وإن تصريفها لا يمكن أن يتم من دون وسيلة الفن، وهذا الأخير يعاني منذ عقود من أزمة تتعمق حالتها مع تعمق أزمة الواقع الاجتماعي الرأسمالي. فتقلصت مساحة الإبداع، وتشوّهت الذائقة الفنية، وانضغطت الأدوات التقنية، فتحوّل الفن في الوقت الراهن إلى آلة تضخّ سلعاً فنية. وصحيح أنّ الجماهير الشعبية في العالم أجمع، جنباً إلى جنب مع قسم من الفنانين الثوريين والتقدميين، قد أطلقوا شرارات فنّية ساهموا فيها بالمقاومة، لكن بقي عليهم أن يهجموا بمعركة ثورية، للمساهمة في تغيير الواقع الاجتماعي الرأسمالي، وعلاقاته الخانقة للتطوّر.
بعد أن طرحنا فرضيّة «فائض من المشاعر»، في الجزء الأول من هذه المادة، والذي نشر في العدد 1155، سنقدّم في جزئها الثاني فكرة «الدماغ الاجتماعي».
الدماغ الاجتماعي
إنّ الواقع الاجتماعي يحدّد الوعي الاجتماعي، وبالتالي فإنه يحدّد ضمناً وجود المشاعر عند الإنسان، الفائضة منها أو الكامنة، وهي موجودة في دماغه، وليس في قلبه. وإنّ القول بأنّ العقل يفكّر، والقلب يشعر، وأنّ هناك دوماً صراعاً بين الشعور والتفكير، هو قول صحيح جزئياً. فإن دماغ الإنسان، هو الحامل للمشاعر والأفكار على حد سواء، وبكل تأكيد هنالك تمايز بين الجانب الشعوري والجانب الفكري، وبالضرورة يتفاعل الجانبان وفق حركة ديالكتيكية، ويمكننا أنْ نحدّد مسارهما الأولي في العملية المعقّدة لتشكل الوعي، بالقول إنّ الجانب الفكري يتجلّى في موقع الخاتمة، أما مقدّمة تلك العملية فتقع في الجانب الشعوري، وهو يتكوّن من تراكم لا نهائي لجملة من الأحاسيس تصل إلى دماغ الإنسان من الواقع، عبر أعضاء الحواس. فإنّ الإحساسات هي الأساس الذي تقوم عليه جميع ظواهر الوعي، أي أنها تشكل الجانب البسيط من الظاهرة، قبل أن تتعقّد بمساراتها المتشعبة والمترابطة.
إننا عندما قسمنا في أعلاه عملية الوعي المعقدة إلى مقدمة (الجانب الشعوري) وخاتمة (الجانب الفكري) لا نقصد بذلك الاختزال، إنما نريد أن نلفت الانتباه إلى أمر في غاية الأهمية. فإن المنظومة الرأسمالية عبر أجهزتها عملت ولا تزال تعمل على توجيه ضربات قاسية للمقدمة، ما يعني ضرب نمو دماغ الإنسان قبل نضوجه. فإن إحدى أهم الوسائل التي سخّرتها المنظومة الرأسمالية لتحقيق هذه الغاية، هي وسيلة الفن، وضمن أغلفة ملونة عدة تزعم بتقديم التسلية، وأنها تخلو من أي غرض. فقد تبين لسادة المنظومة، بأن استغلال وسيلة الفن يعطي نتائج فعالة لمخططاتهم، فمن مرحلة المهد، حيث تتمحور الإحساسات بعلاقة مع العالم الخارجي، تتفاعل بنية الرضيع النفسية مع وسائل تسلية، أو تلهية تستند إلى الفنون والعلوم بصناعتها، ثم إلى مرحلة الطفولة حيث تترابط الإدراكات مع العالم الخارجي الموضوعي، تغزو العقول ألعاب أو أفلام رسوم متحركة أو أغاني أطفال من شتى الألوان، حتى دخول مرحلة المراهقة، حيث تتفاعل التصورات حول طبيعة الواقع الاجتماعي، وهنا تستغل الفنون بشدة لغرز إيديولوجيا المنظومة الرأسمالية في البنية الوجدانية للشباب اليافع. فأثناء كل تلك المراحل، ينمو دماغ الإنسان بشكل مشوه، وبناءً عليه ظهر توصيف من قبل فئة من الشباب اليافع في الغرب، يقول:
«Mein gehirn ist ein sieb»، «إن دماغي عبارة عن مُنخُل».
وعليه قد يخطو الشباب اليافع خطوهم الأول في الواقع الاجتماعي الرأسمالي، ويغلب على وعيهم الظن بأن أزمتهم منفصلة عن أزمة الواقع الاجتماعي الرأسمالي الشاملة. وعند هذه النقطة يزداد تفرقهم، وتبدأ رحلة الفرد بالبحث عن خلاصه لوحده. لكن الحقيقة أنه كلما زادت محاولات الفرد للبحث عن خلاصه لوحده، كلما زاد تفكك الخاصية الأكثر جوهرية في دماغه، أي الخاصية الاجتماعية. ومن حيث يدري أو لا يدري، فإنه يساهم بتفكك ظاهرة الواقع الاجتماعي ككل، ما يعني العودة إلى «الواقع البربري». فإن البحث المحموم عن الخلاص الفردي الذي تروّج له المنظومة الرأسمالية بأشكال فنية عدة، وإعلامية مختلفة، ومنابر سياسية، ومنصات عدة، سواء ذات طابع ديني أو عَلمانيّ، تدفع بالفرد لكي يترجم مشاعره إلى أفعال ليبرالية عدمية مغلّفة بألوان شتّى، فإن ترابطاته مع مجتمعه، ومن أهمها روابط الذاكرة الاجتماعية، تتحول إلى خيوط واهنة، وبالطبع لن يسلك الفرد طريقاً كهذا لو أنه رأى المصير الذي ينتظر «الفرد الناجي» على حساب نجاة الآخرين، وهو مصير العيش في أقصى حالات الاغتراب داخل بيت من أوهن البيوت، يعيش فيه وحيداً بين خيوط واقعه السقيم. وهذه الحقيقة المريرة أخفتها المنظومة الرأسمالية، بعدما استطاعوا أن يهمشوا بشراسة طوال العقود الماضية، نتاجات فنية ثورية وتقدمية ولدت وجدانياً من رحم معاناة الجماهير الشعبية، والتي تعبر بأشكال عدة عن الفرد الذي يبحث عن خلاصه بخلاص الآخرين.
يمكننا استكمال الافتراض بالقول إن دماغ الفرد منذ ولادته ينمو اجتماعياً، وليس فقط بشكل بيولوجي، يبدو أن شخصية الإنسان تبدأ بالتشكل في مرحلة المهد، فالرضيع يتواصل مع العالم الخارجي وفق خطاب اجتماعي بدائي، فإن أولى ملامح شخصيته تظهر عبر الإيماءات التي يتفاعل بواسطتها مع العالم الخارجي، وسوف نتوسع بهذا القول في الجزء الثالث.
إن التفكير في مسألة تلبية الحاجة الملحّة لظهور «حركة فنية ثورية» ترتقي إلى مستوى التغيرات الكبرى في العالم، يشترط إعادة التفكير على ضوء العصر الراهن بحالة «الوعي الفني» عند الجماهير الشعبية، وعند الفنانين المختصين على حد سواء، وتقديم بنى جديدة تتناسب مع الفائض الكبير من المشاعر الذي تحمله الجماهير الشعبية، وذلك يحتاج إلى تفاعل الجانب النظري مع الممارسة على أرض الواقع، وفق مسارات عمل ترتبط وتتفاعل مع أشكال الوعي الأخرى من خلال ورش عمل فنية مع الجماهير الشعبية، وتقديم نتاجات فنية وفق مسار عمل متواتر ومنتظم. نستطيع أن نرجّح أن منطقتنا تحديداً، منطقة شعوب الشرق العظيم، تحمل بداخلها إمكانيّات وافرة لتقديم قيمة مضافة للفن العالمي، كونها المنطقة التي تَكثَّف فيها المُكثَّف من الصراع الطبقي، خلال العقود الثلاثة الماضية.
إنّ القيمة المضافة للفن تظهر في زمن صعود الحراك الشعبي العالمي، وليس في زمن هبوطه. فانظروا إلى النصف الأول من القرن الماضي، عندما تكثَّفَ الصراع الطبقي في العالم وتحديداً في الغرب، ظهرت القيمة المضافة للفن، وعلى سبيل المثال وليس الحصر، ظهرت نظرية المسرح الملحمي من قبل برتولد بريخت، وظهرت سينما شارلي شابلن. وليس هذا فحسب، إنما ظهرت القيمة المضافة في علم النفس من قبل ليف فيغوتسكي، وظهرت القيمة المضافة في نظرية الثقافة من قبل أنطونيو غرامشي.
في زمننا الراهن، زمن ثورة الشعوب، تملك الطبقة العاملة وسائر الكادحين، أدوات كثيرة مهمة قدمتها «التركة الاشتراكية»، فمثلاً المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية هما سلاح فكري، يقدمان دعماً قويّاً أثناء عملية ربط المفاهيم بعضها مع بعض، من خلال ما يمكن تسميته «التفكير الطبقي». وهناك أدوات فنية كثيرة مفيدة، لكنها لم تصل بعد إلى مستوى أن تكون سلاحاً بيد الجماهير الشعبية، لذلك قد تبدو عمليةُ ربط الأحاسيس بعضها مع بعض عمليةً ضعيفة، وتحتاج إلى تنظيم ما يمكن تسميته اصطلاحاً «بالتفكير الدرامي» عند الجماهير الشعبية، وسوف نتوسّع بهذه الفكرة الأخيرة في الجزء الثالث.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1159