النمذجة عند غرامشي.. مسرح العمليات الجديد والمشروع الحضاري

النمذجة عند غرامشي.. مسرح العمليات الجديد والمشروع الحضاري

كانت إحدى مساهمات غرامشي الأساسية هي نمذجة دينامية الصراع السياسي، مستخدماً بذلك مصطلحات الفن العسكري، ما سمح بتقديم مخطوطة واضحة اللغة والمتغيرات وخطة العمل وميادين الصراع. ونجد عنده مثلاً مقولات حرب الحركة وحرب المواقع، القلاع، الخنادق والحصار في توصيفه للصراع السياسي والعلاقات بين البنى الفوقية والتحتية للمجتمع، والعلاقة بين عناصر كل بنية على حدة. وهذه النمذجة ضرورية من أجل تجريد الصورة العامة لما هو عليه «مسرح العمليات الحربية» السياسي ضمن السياق التاريخي الملموس. هذه المادة تشير إلى ضرورة تطوير هذه النمذجة ربطاً بالجديد التاريخي في عصر الليبرالية الفردانية.

إشارة حول ضرورة إعادة إنتاج غرامشي

وهناك ضرورة اليوم لبعث غرامشي لما يملكه نصه من غنى عظيم وإمكانات للمساعدة على الإجابة عن الأسئلة التاريخية المطروحة. ولكن والأخطر، كون الرأسمالية نفسها وظفت عقل غرامشي في ممارستها طوال العقود الماضية. هذا البعث وإعادة الإنتاج أخذاً بالاعتبار الجديد التاريخي، ضروري ليس فقط من أجل استكمال إنتاج رؤية عامة للمرحلة التي صار واضحاً تبلورها لدى غالبية العقل الفاعل عالمياً، ولكن والأهم تعميقها وجعلها أكثر شمولية. وهذه المهمة، أي إعادة إنتاج غرامشي، تحتاج أولاً إلى قناعة بكونها واجبة، وإلى إعادة ربط التحليلات الجديدة والأسئلة الجديدة على قاعدة المخطوطة التي قدمها غرامشي من خلال ترجمة مسرح العمليات السياسي إلى لغة الفن العسكري لما له من أهمية في رسم المشروع الحضاري النقيض وتوضيح موجباته وتحدياته.

محاولة حذرة في تناول غرامشي

إن محاولة تطوير بعض طروحات غرامشي تحتاج إلى الحذر الشديد كونها تتعامل مع مادة عالية التوتر والنشاط والتكثيف والثقل النظري. ولهذا ما سنحاول أن نقوم به هنا هو محاولة لتوضيح جانب واحد، ولكنه أساسي، من جوانب الأزمة الحضارية، من خلال استخدام لغة غرامشي في إنتاج مسرح العمليات السياسية اليوم. والجانب الذي سنحاول إنتاج مخطوطته هو التحوّل الذي طرأ على المجتمع المدني، مثلاً لناحية طبيعة القوى والمساحات «المدنية» الجديدة التي تشكلت خلال عقود اللبيرالية، وما يعنيه ذلك من تحول في مسرح العمليات السياسي الذي لا يزال اليوم ضعيف الحضور في المشاريع الحضارية النقيضة المطروحة على الساحة العالمية. إذاً، سنحاول أن نعيد صياغة الكثير من المواد السابقة في قالب النموذج الذي قدمه له غرامشي لناحية توظيف الفن العسكري لصالح فهم الصراع السياسي.

بعض الملاحظات من غرامشي

ولهذه الغاية يجب أولاً إعادة التذكير ببعض الملاحظات ذات الصلة التي قدمها غرامشي من خلال نماذج تاريخية ملموسة. أحد الأمثلة التاريخية الكبرى التي ناقشها غرامشي هي التحول في طبيعة القوى بعد تشكل الأحزاب والنقابات في القرن التاسع عشر (تحديداً بعد 1848)، وهو ما غيّر، حسب غرامشي، كل مسرح العمليات السياسي، فقد أدخل قوى جديدة غيّرت في عمليّة الهيمنة نفسها، وغيرت في آليات السيطرة وبالتالي الصراع السياسي. فالسؤال المركزي هو هنا «كيف يعاد بناء جهاز هيمنة الطبقة الحاكمة؟» والتحول في «التوازن بين القوة المشروعة والقوة غير المشروعة» وكيف يكون «تغيّر التكنيك السياسي تاريخياً وتشكّل البرلمانيات والأحزاب والنقابات وتكون بيروقراطيات الدولة والبيروقراطيات الواسعة كبيروقراطيات الأحزاب والجمعيات، وتغير في قوى النظام بالمعنى الواسع؟» وكيف وُظّفت هذه القوى الجديدة لصالح تثبيت وضمان السيطرة من خلال لعبها الدور «الوقائي والاستقصائي»؟. وهنا يشير غرامشي على أن توسيع هوامش المجتمع المدني خارج جهاز الدولة غيَّر من مسرح العمليات الحربية السياسي، وأنتج خنادق جديدة تنتصب أمام القلعة التي هي جهاز الدولة، وشدد على أنه «تجب الدراسة المعمقة لمعرفة أي عناصر المجتمع المدني يناظر الأنظمة الدفاعية في حرب المواقع الثابتة...فالبنية الفوقية وتعقيدها يتشابه مع حرب الخنادق». فـ»العامل الاقتصادي (الأزمة الاقتصادية مثلاً) هو كمدفعية الميدان التي تهز الخط الإستراتيجي للعدو» وبالتالي الاعتماد عليه وحده ينتمي إلى «نظرة صوفية الطابع وشكل من أشكال الحتمية الاقتصادية» فـ»الهجوم المباشر على الدفاعات ليست إلا الواجهة، ولا يزيل الخط الدفاعي الذي لا يزال موجوداً» وهذا يسمح مثلاً بفهم واقع «هل أن المجتمع المدني سيقاوم بعد أو قبل الاستيلاء على السلطة؟» ويسمح بتحديد «الخنادق التي تقف خلف الدولة، حيث يجب استكشاف كل حالة دولة على حدة».

الجديد التاريخي على ضوء الملاحظات

إذا كانت لحظة التحول ما بعد 1848، التي غيرت من طبيعة القوى وتعقيد البنية الفوقية وميدان مسرح العمليات هي بالغة الأهمية بالنسبة لفهم ديناميات الصراع السياسي، فإن لحظة التحول ما بعد الحرب العالمية الثانية توازيها، بل تتجاوزها، من حيث الأهمية. وهنا نعيد الإشارة إلى طبيعة التحول في البنية الفوقية ومجمل المجتمع المدني الذي حصل ضمن إطار الرشوة الكبرى، في كونها وسّعت من هوامش الهيمنة ضمن المجتمع المدني وطورت أشكال ممارسة القوة عبر توسيع قاعدة القبول، وهذا ما غيّر بالتالي من طبيعة القوى التي أُدخلت إلى مسرح العمليات، حيث صار البشر أنفسهم الخندق الدفاعي الكبير الجديد للدفاع عن قلعة السيطرة السياسية للمجتمع الرأسمالي. وهذا التوصيف يحتاج طبعاً إلى تدقيق أكثر، ولكنه للتبسيط لا أكثر. وهذا الخندق الدفاعي الكبير يترابط مع خنادق أكثر «خصوصية وبيروقراطية» كالبيروقراطيات العلمية والثقافية والفنية والإعلامية، إلخ. التي توسعت هوامشها بعد لحظة الرشوة الكبرى. وهنا نشير إلى إشارة غرامشي نفسه حول خطر القوى البيرواقراطية في وقته، والتي كانت أقل بما لا يقاس من بيرواقراطية مرحلة الليبرالية الفرادنية الاستهلاكية، في خطرها الناتج عن طبيعة ممارسة ونشاط ووظيفة البيراقراطية في البنية الاجتماعية وموقعها من عملية الإنتاج، وفي مثال محدّد يشير إليه غرامشي هو «لأن الجامعات، وكل المؤسسات التي تُنمّي المهارات الفكرية والتكنيكية هي بمنأى عن تأثير الحياة الحزبية والواقع الحي للحياة الوطنية، فإنها تُنتِج كمواد وطنية غير مسيَّسة ذات تكوين عقلي، خطاباً غير وطني. ومن هنا اغتراب البيروقراطية عن الوطن، وصارت من خلال مواقعها الإدارية حزباً سياسياً حقيقياً، هو أسوأ الأحزاب جميعاً. وحلت الهرمية البيروقراطية محل الهرمية الفكرية والسياسية، وأصبحت البيروقراطية حزب الدولة البونابارتي»(الاقتباسات هي من كراسات السجن لغرامشي بعضها منقول بتصرّف). ويمكننا بكل بساطة أن نستخلص مدى التوسع في حجم هذه القوى عالمياً، ليس فقط البيروقراطية منها، بل التحول الذي طال الحياة المباشرة للأفراد بشكل عام، الذي يتصف أيضاً بملامح أشار إليها غرامشي كالـ»لا تسييس» والانفصال عن الحياة الوطنية والسياسية، إضافة إلى ارتفاع «هلامية البنى الاقتصادية والاجتماعية وميوعة الطبقات الاقتصادية» وهو حسب غرامشي سبب «التفكك والفساد والتحلل في الحياة الثقافية والخلو من الحياة وارتفاع الخرافة وانحطاط الحياة السياسية كارتفاع المشاجرات العابرة والشخصية».

خلاصات أولية

النقاش يحتاج إلى كثير من التوسع، ولكن كخلاصات أولية، ما سبق يسمح بالقول -من خلال استخدام مصطلحات غرامشي- أن خنادق جديدة قد أُنشأت حول قلعة السيطرة السياسية، ولكن ليس هذا وحده، بل ربما حصل تحول في طبيعة القلعة نفسها، أي انزياح في وظيفة الهيمنة من جهاز الدولة وانتقال قسم كبير من وظيفته إلى القسم الآخر من المجتمع المدني وهو ما غيّر من شكل «القيصرية السياسية». هذا قد يبرر الخلاصات التي تم تطويرها مؤخراً حول استعداد النخبة للتضحية بدور الدولة، دون أن يمس ذلك بالواقع الهيمني نفسه. ويبرر أيضاً في كون الكتلة الشعبية نفسها ليست فقط خندقاً للدفاع، بل قد تتوظف في لحظة ما، قوةً للهجوم (حرب الحركة) وهذا ما حصل مثلاً في «الثورات الملوّنة» والقوى الجديدة المتمثلة بجمعيات «المجتمع المدني». ومن الخلاصات المهمة التي تعنينا في قضية المشروع الحضاري النقيض، أن ما يطرح إلى حد الآن لا يطال أياً من هذه الخنادق الدفاعية الجديدة، التي تتحوّل أيضاً إلى قوى هجومية في وقت من الأوقات بيد العالم القديم. وهذا خلل قاتل في فهم مسرح العمليات الحربية السياسية وفي تطوير «الأسلحة» المناسبة. فالقوى التي يزج بها العالم القديم وتقف خنادق دفاعية عن السيطرة السياسية ما زالت كبيرة ولا يمكن للمشروع الحضاري النقيض أن يتجاهلها، ولكن الجوهري هنا هو شكل الأدوات التي تسمح بشل قدرات هذه القوى، ولكن أيضاً، وهو الأهم، هو كسب هذه القوى بالكامل لصالح جبهة المشروع الحضاري النقيض والعالم الجديد. ودون هذا الكسب سنكون أمام واقع أن «القوى الفاعلة الكامنة في المجتمع القديم لن تقدر على صناعة عصر جديد بل ستمارس فعاليتها انطلاقاً من عجز الخصم عن البناء، دون التعبير المستقل عن نفسها» وهذا تفريط فيها لصالح الخصم نفسه ارتباطاً بـ»وضع توازني تعجز فيه القوتين المتصارعتين الرئيسيتين عن التعبير المستقل عن إرادة البناء» والمقصود هنا بناء الحضارة الجديدة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1146