السّحر الذي انفَلَت من الساحر.. عن الهيمنة والطوفان

السّحر الذي انفَلَت من الساحر.. عن الهيمنة والطوفان

حازت وسائل تثبيت الهيمنة الجديدة الكثير والكثير من التحليل خلال العقود الماضية، وتحديداً الفضائيات ولاحقاً الإنترنت ووسائل التواصل وكل أشكال الوسائط التي صارت تعمل على مدار الساعة وحسب مقياس زمني سريع ازداد طرداً مع اشتداد حاجة القوى المسيطرة لقصف العقل بشكل مستمر من أجل لجم الوعي ارتباطاً بحجم التوتر في النظام. ولكن، وكما كل ظاهرة، فهي تحمل إمكانات التطور باتجاهات متناقضة. وفي هذه المادة سنشير سريعاً إلى الإمكانات في فضاء الهيمنة على الوعي واحتمالات بلورة النقيض.

عن التناقض في عالم الهيمنة

إن فهم الإمكانات المتناقضة في آليات عمل الهيمنة اليوم يتطلب مجدداً العودة- على الرغم من الإشارة الدائمة إليها- إلى أصول تشكّل هذه الآليات والوظيفة والظروف التاريخية التي قامت عليها. فالهيمنة الجديدة خلال العقود الماضية تشكّلت على قاعدة استيعاب القوى الإجتماعية التي اقتحمت مسرح التاريخ خلال النصف الأول من القرن الماضي. وأغلب ما ظهر من ملامح اقتصادية وثقافية وسياسية (غالب عناصر البنية الفوقية بشكل عام) خلال النصف الثاني من القرن الماضي وأوائل القرن الحالي يقوم على هذه الوظيفة (الاستيعابية) ومن أجل تحقيقها. هذه الوظيفة التي بدأنا نرى تحولاً نوعياً فيها خلال السنوات الماضية، وتحديداً تحولها من الاستيعاب الناعم إلى التدمير تحت ضغط الوقت وتسارع الحدث وحدة التناقض في النظام الرأسمالي. إن فهم آليات الهيمنة على هذا الأساس التاريخي والوظيفي يعني أن آليات الهيمنة الهجينة تفترض ضمنياً وتتطلب اشتراك العنصر الخاضع للهيمنة وقبوله لها. لهذا يمكن القول، إن مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية كلها كانت تقوم على استدامة ما سماه غرامشي «لحظة القبول».
هذا هو التناقض المركزي في آليات الهيمنة الجديدة، أي في كونه يتطلب الاشراك المفرط للقوى المطلوب الهيمنة عليها. وهذا ما كان يدفع تطوّر أدوات الهيمنة كمّاً ونوعاً مع اشتداد التوتر الاجتماعي وبالتالي استعداد تلك القوى «المشاركة بالهيمنة عليها» للتحرّك. وهذا الاتجاه المتناقض، وكلما اشتد التوتر الاجتماعي، مع ظهور عناصر ومواد نقيضة من خارج «نادي الهيمنة» ضمن هذه المنصات والأدوات، ومهما كان حجمه هذه المواد، يخلق أزمة لآليات عمل الهيمنة، وهنا تنكشف وظيفتها اللاجمة فتمارس القمع والإقصاء مباشرة. هكذا، هي تهدد أسس وظيفتها نفسه. لم يكن جوليان أسانج إلا نموذجاً مبكراً لانفضاح التناقض في فضاء الهيمنة، فانكشف زيف كل مقولة «حرية التعبير» الليبرالية وما يرتبط بها من مقولات وممارسات. وليست خوارزميات الاقصاء على منصات التواصل إلا دليلاً آخر، وليست الممارسات الأخيرة ضمن سياق طوفان الأقصى إلا انكشافاً جديداً وأوسع مدى لهذا التناقض في آليات عمل الهيمنة.

عن الكامن في فضاء الهيمنة

على الرغم من القدرات التي طورتها القوى المسيطرة في فضاء الهيمنة على الوعي، والتي عملت عكسياً وبالضد من مصالح البشرية، ولكنها في ذات الوقت ونتيجة للتناقض التي تقوم عليه، أي في كونها تتطلب القبول من قبل القوى المطلوب الهيمنة عليها، هي تعني إشراكاً أعلى للأفراد، بغض النظر عن شكل هذا الإشراك، وبالتالي فإن الوعي ونتيجة لهذا الافراط في استدعائِه الدائم من قبل أدوات الهيمنة ووسائطها، فهو حاضر بشكل مفرط أيضاً. وهذا هو أحد القوى الكامنة في عصر الهيمنة الجديدة التي يُطلب تحويلها إلى قوى فاعلة إلى حدودها القصوى، فما حصل عملياً خلال العقود الماضية أن النظام العالمي وضع القوى الاجتماعية في حالة «انتظار» لا أكثر، وفي السنوات الماضية ونتيجة لزيادة التوتر الاجتماعي وانكشاف زيف ما هو «مُنتَظَر»، تشكّلت منافذ لهذا الكامن للحركة بأشكال أعلى. وهناك كامن آخر هو الترابط والتكثيف الشديد الذي هو ملمح مهم للمرحلة الراهنة. فالترابط الكبير بين مستويات الواقع وظواهره يجعل أيّ حدث قادراً على تحويل كل المشهد، وبالتالي قادر على التأثير على مجمل سردية الهيمنة وبنائها الداخلي وقادر بالتالي على كشف وتعرية لغتها الضمنية وجوهرها. ومجدداً، الأمثلة على ذلك كثيرة، وآخرها ما نشهده من انكشاف في سياق الطوفان، الذي وربما دون وعي بكامل الأبعاد من قبل مطلقي الاسم، فإنه فعلاً أطلق عملية انفجارات تسلسلية «طوفانية» في كامل بنية الهيمنة عالمياً.

أمثلة مباشرة

يمكن الدلالة على ما سبق من خلال أمثلة مباشرة، ومنها مثلاً كيف تحولت مقابلة واحدة مع مقدم البرامج والكوميدي باسم يوسف (وبمعزل عن الموقف السياسي والفكري من الرّجل) عمّا يحصل في فلسطين، لا تتعدى نصف الساعة إلى مادة عالمية شاهدها، ومن خلال حساب أولي بسيط لبعض قنوات منصة اليوتيوب فقط دون غيرها، أكثر من 20 مليوناً، وأثّرت بشكل فرض تداولها من خلال برامج أخرى. وليست هذه إلا مثالاً من مئات المواد التي انتشرت كالنار في الهشيم ليس بسبب كون الآخرين لا يقولون ما قيل في هذه المواد، بل في كونها، أوّلاً، حصلت في سياق محدد ونوعي في فضاء الهيمنة، وثانياً، الأداء والشكل الذي حصلت به، أي شخصية صاحب المادة وتقديمه لها. ليس هنا المكان المناسب لهذا النقاش، ولكن من خلال مراجعة أدبيات نقاش المواد الفنية والأدبية والتمثيلية يمكن استنتاج أن العناصر المتناقضة في المادة نفسها هي التي تصنع هويتها «الإبداعية» المؤثرة. لنقل مثلاً، إن تظاهرة في عقر دار الغرب، أي في كونها تقوم على التناقض مع الهوية السياسية لمحيطها، لها وزن أكبر من تظاهرة في دولة عربية لها موقف مقاوم تاريخياً. أو أن يحصل تصريح من قبل شخص في مظاهرة في دولة عربية لها موقف «تطبيعي» رسمي، له وقع أكبر أيضاً نتيجة التناقض الضمني الذي تحمله. كذلك هي مقابلة باسم يوسف قامت على كثير من التناقضات، أولاً مع مقدم البرنامج الذي يحمل موقفاً معادياً للمقاومة بشكل عام، وكون المقابلة حصلت من على منصات الغرب وفي بيئته، وثانياً أداء باسم يوسف الساخر-النقدي (والرجل معروف بقدراته المسرحية التمثيلية) حول ملف فيه الموت والدمار والخسارة، وما قام بتناوله من موقع القوة لا موقع البكّائين لاعبي دور الضحية، فقام بتطويع السخرية في تناول مادة حساسة ومؤلمة. وهناك نقطة ثالثة هي هوية الشخص نفسه وبكونه معروفاً ما يدل على اعتراف أعلى بالخط والموقف النقيض.
وإذا عدنا إلى الموضوع الأساس، أي قدرة مادة ما، ونتيجة ما تقدمه وشكل تقديمه، على التأثير بهذا الشكل الواسع، نرى أن فضاء الهيمنة وعلى الرغم من قدرات أدوات الهيمنة والإمكانات الموظفة فيها، فإنه قادر على الانقلاب إلى نقيضه لما تطل مادة ما تحمل فيها تناقضاً مع القائم. وهذا التناقض كلما تعمّق وتوسع مداه مع الهيمنة القائمة وآلياتها الداخلية كلّما قدر على تحول إلى هيمنة نقيضة كونه يصير ناطقاً باسم القوى الحاضرة أساساً في فضاء الهيمنة كونها مشتركة فيه. فالتحريض، على أهميته، ليس هو العامل الحاسم هنا، فالقوى الاجتماعية «محرّضة» بسبب من آليات الهيمنة نفسها. العامل الحاسم هو الموقف النقيض وما يحمله.

خلاصات عامة

إن الهيمنة الجديدة خلال العقود الماضية ولكونها تطلب اشتراكاً وقبولاً القوى الاجتماعية في عملية الهيمنة فهي وضمن شروط تاريخية محددة كالتي نمر بها اليوم يمكن أن تنقلب إلى نقيضها. وإذا ما كان الحدث الذي أخذنا الأمثلة منه هو الحدث الفلسطيني، مع ما يحملهم من معانٍ عالمية الطابع، فإن تعميم هذه الخلاصة إلى مستوى مشروع تغيير النظام العالمي وحضارته المأزومة يحتاج أولاً إلى المادة النقيضة التي تعكس المعاني ضمن هذه الأزمة الحضارية، أي المعاني الناتجة عن تأزم نمط الحياة الاستهلاكي الفرداني نفسه (وهنا نقصد أزمة المعنى تحديداً، والاغتراب وانهيار العقل وكل تمظهرات ذلك في ميادين النشاطات المختلفة كالعمل والترفيه والعلاقات الفردية الشخصية، إلخ.)، وثانياً إلى شكل إخراج هذه المعاني وتقديمها، والشرعية المعطاة لها كجبهة أو كمنصة ومن تقدر على حشدهم من القوى الحية التي لها حضور عالمي، وهناك أيضاً العامل الثالث ألا وهو الدخول إلى ميدان الوسائط والدعاية بما يتوازى مع حجم الملف نفسه. فهذا التطور قادر على قلب كل فضاء الهيمنة نحو هيمنة نقيضة لقوى العالم الجديد. فالكامن يمكن أن ينفذ إلى السطح وأن يتحول إلى قوة فاعلة، وسيعكس حجم القوى الحية فعلاً. إذاً، إذا كان التحريض هو ذات أهمية ثانوية، فإن التنظيم بمعناه العام هو المهمة الرئيسية اليوم. وإذا كان التحريض في عصر الهيمنة الجديدة بهذا الاتساع والتعقيد والتطور التقني، فإن التنظيم يجب أن يكون كذلك، وانطلاقاً من طبيعة المادة التي تخضع للتحريض يجب أن ينطلق التنظيم النقيض. فعلاً، كما أشار ماركس، إن الرأسمالية كالساحر الذي أطلق قوى لم يعد قادراً على السيطرة عليها، وهنا تكمن الهوامش الكبرى للفعل الثوري، خصوصاً بعد عقود من تعاظم قوى السحر التي أطلقها هذا الساحر من أجل أسر الجمهور وإبهاره.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1145