أيام العمل في فيينا
حسين خضّور حسين خضّور

أيام العمل في فيينا

بمثابة مقدمة

كلما تعمق طور التراجع العام للحركة الثورية العالمية، يميل صوت الوهم المعبر عن طبيعة العيش في المدن الرأسمالية إلى الثبات. وأثناء وصوله إلى ذروة انحداره، حيث يبدو أنه تحول من نهر متدفق بحيوية إلى بحيرة راكدة بعمقها، يترسخ وهم التشبيهات والاستعارات في الوعي الاعتيادي للمجتمع عن حقيقة المدن الرأسمالية. لكن بمجرد أن تبدأ الحركة الثورية العالمية من جديد بشق مجرى أنهارها نحو طور تقدمها العام، تتكشف الحقائق بالملموس من خلال يد البروليتارية، وكافة الفئات الكادحة. سنتحرك في هذه المادة برحلة خاطفة إلى عمق أطراف المدينة والمركز التابع له. وفيينا ستكون نموذجاً لرحلتنا، لكن ليس بصوت الوهم (ليالي الأنس في فيينا)، إنما ستكون رحلة مع أصوات عمالية همشتها وأقصتها الثقافة البرجوازية. ورحلتنا الأولى ستبدأ عبر قطار الأنفاق بخطه الثالث (U3).

من النفق إلى المقلاة

«انظر. هناك. انظر ستتحطم زجاجة البيرة»، قال الشاب اليافع لصديقه السكير مثله. فضحك الاثنان، ودخلا في حالة حماسية يعلقان على تأرجح الزجاجة في مقصورة القطار، وكأنهما معلقان في ملعب كرة قدم، يملأ حلقهما التشنج والتوتر في الدقائق الأخيرة لمباراة حاسمة. كانت رحلة الخط الثالث (U3) في أولها، وأمام رفيقنا العامل عشرون محطة حتى يصل إلى نهاية الخط. ما يعني أنه سيتحمل صخب هذين الشابين اليافعين، بعدما غرقا في سهرة العطلة، المعروفة هنا في مدينة فيينا أنها سهرة تمتد من مساء يوم الجمعة حتى صباح يوم الأحد، طبعاً هذا يتوقف على حجم التوتر في داخل الناس، وتحديداً الشباب الذين دخلوا جديداً إلى دورة سوق العمل الأسبوعية (الإثنين - الجمعة)، ليأتي من بعدها حلمهم المنتظر، أي العطلة (السبت - الأحد)، ليفرغوا فيها توترهم، ومن ثم يعودوا إلى الحلقة ذاتها. صحيح أن رفيقنا العامل خارج هذه الحلقة المعيبة. لكنه أحياناً يشعر بأنه سينزلق إليها إذا لم تتغير أحواله، وعليه قبل أن يعمل في ليالي فيينا، رغم أن شرط العقد الذي وقع عليه لا ينص على ذلك، فإن الأمر أبعد من ورقة تحمل شعار الشركة الوسيطة (Adecco) التي وظفته للعمل في المستودعات العملاقة لشركة (أمازون)، إنما المسألة تعني أنه مضطرٌ لتنفيذ العمل بالليالي، وبدقة تقترب من كفاءة مسننات الآلة، وبالتي ستكون لديه (الفرصة) حتى تأخذه شركة (أمازون)، ما يعني أنه اقترب من (الفرحة الكبرى)، أي إنه سيملك عقداً مفتوحاً مع الشركة الأساسية، وينهي علاقته المؤقتة مع الشركة الوسيطة. وهذا بدوره سيجعل من القانون الذي يتشدق به المثقفون المتحذلقون (سنداً له) من خلال إتاحة الإمكانية الفعلية، لكي يقوم بلم شمل عائلته من أراضي شعوب الجنوب المنهوبة والمنكوبة. «انظر. هناك. انظر علق عنق زجاجة البيرة في زاوية الباب»، قال الشاب اليافع لصديقه السكير مثله. فضحك الاثنان وهما يخرجان من قطار الأنفاق. فتوقف نظر رفيقنا العامل على وضع الزجاجة، وشعر أنها لن تنكسر، إنما ستنفجر وتتشظى بنثراتها في المكان. حدق أكثر، ثم بدأ ينظر إلى الناس، فتبين له أنهم غير مبالين بشيء. تأمّل للحظة شرايين الدم في عيونهم، وشعر أن تلك العيون على اختلافات همومها يجمعها همٌّ واحد كبير. وصل رفيقنا العامل إلى نهاية الخط، فخرج من النفق، بعدما ألقى نظرة أخيرة على عنق الزجاجة. استقل حافلة لتقربه من موقع المستودع. دخل الشركة، بعدما وضع بصمته على الشاشة. اتجه إلى غرفة الملابس، فخرج منها بسترة برتقالية دون أكمام، وحذاءٍ واقٍ من الضربات، وتتدلّى على صدره بطاقة بيضاء مكتوب عليها اسمه، وبيده جهاز المسح الضوئي. أثناء توزيع المشرفين لخطة العمل، أخذ نفَساً عميقاً، وأخرجه زفيراً بطيئاً، ثم قفز مع زملائه إلى مقلاة (الشركة)، فعملوا حتى حُمِّسَت أيديهم، وتقوّست ظهورهم، وتشنّجت أقدامهم، ليخرجوا أخيراً منها.

من الطريق إلى الساحة

فكر رفيقنا العامل بأن يمشي صوب محطة قطار الأنفاق، عوضاً عن الجلوس في الحافلة. فإن صباح اليوم قد حمل معه طقساً معتدلاً. فتأمل الطريق الممتد أمام عينيه، فرآه طريقاً ممهداً، يستطيع أن يتلمس نهايته، فتملّكه صمت مخيف يخفي في أعماقه قلقاً له جذور قاسية تمتد إلى طفولته. أحس أنه بحاجة إلى أن يمشي أكثر، أو بالأحرى بحاجة ماسة لأن يفكر وهو يمشي. خاطب نفسه قائلاً، «كم هو بسيط المشي على طريق ممهد يكشف لك نهايته، لكن من شق هذا الطريق؟ إن جزءاً مني يعمل هنا، والآخر ساكن بين أضلاع حروف عائلتي، أغصان شجرتي، جدران بيتي. أي وهمٍ عشنا به؟ الغرب الذي استعمرنا أصبحَ حاملاً لراية القانون! تأتي إلى هنا مهاجراً نظامياً، يتيحون لك إقامة لمدة سنة، ويجب عليك أن تزمجر في سوق العمل حتى تستطيع الحصول على عقد عمل. ولاحقاً تستنتج أنهم أعدوا لك هذا الطريق سلفاً، أي إنك بوصفك من العمالة المهاجرة، ستجد نفسك في البداية مع شركة وسيطة، تتيح لك الفرصة للحصول على عقد مؤقت، لا يتعدى في أغلب الأحوال تسعة أشهر، ولاحقاً تدرك أن هذا يعني أنك غير قادر على تحصيل ميزات الضمان الاجتماعي في حال أصبحت من العاطلين على العمل، لأن القانون نص على أن تعمل سنة كاملة، ومن بعدها تستطيع الحصول على تلك الضمانات، لا، وأنكى ما في الأمر أنهم يقتطعون منك كل شهر مبلغاً كبيراً لصالح التأمينات الاجتماعية! وطبعاً الذي لديه عقد مؤقت، فرصته ضئيلة بلم شمل عائلته. وهكذا ترى نفسك تنافس رفاقك بالعمل، وجيش العاطلين عن العمل يضغطون عليكم. بالإضافة إلى كل ذلك، يدفعون بك نحو مشاعر الحقد على وضع اللاجئين، لأن القانون سمح لهم بالحصول على المساعدات الاجتماعية من دون أن يعيشوا 5 سنوات متواصلة. أيُّ وهمٍ قُدِّمَ لنا؟». دخل رفيقنا العامل إلى نفق قطار الأنفاق، وكان في نيته أن يذهب إلى بيته، وينام كما جرت العادة، لكنه في هذه المرة، تحرك بعفوية، وخرج من النفق إلى مركز المدينة، توقف في ساحة الأبطال (Heldenplatz)، كانت هناك مظاهرة لشريحة واسعة من الفئة الوسطى، كانوا يحملون بأيديهم شلمون (شفاطة بلاستيكية)، ويهتفون لأجل المحافظة على البيئة، وكانت فكرتهم تتمحور حول منع استخدام هذه الشفاطات، وفق منطق أن كل إنسان يستهلك شفاطة بلاستكية واحدة، 8 مليارات إنسان يعني 8 مليارات قطعة بلاستيكية. رسم رفيقنا العامل ملامح السخرية على وجهه وأخرج صوته قائلاً «كانت المهمة قبل عقدين تقريباً أن نتحرك لنغير الأنظمة في بلادنا، فأصبحت المهمة بعدما وصل قسم منا إلى مراكز العالم، بأن ندفع بتغيير أنظمة هذه المراكز».

بمثابة خاتمة

مع نهايات القرن الماضي، بدأ الاستعمار الغربي يدرك أنه سيفقد الخزان الكبير من العمالة في جنوب العالم الفقير، فلم يستغل خيرات أراضي جنوب العالم فسحب، إنما طاقات عماله، لإنتاج بضائع من كدهم وعرق جبينهم، وإرسالها إلى بيته الداخلي، ليؤمّن لشعوبه الوفرة على حسب الندرة هناك. لكن حال المستعمر اليوم ليس كما في الأمس، فإن أزمته الشاملة التي انفجرت منذ عام 2008 وما زالت مستمرة بتعقد مساراتها، تزامن مع الحركة الثورية العالمية التي دخلت بالفعل في طور تقدمها العام، والذي ما زال مستمراً نحو تعمق وتجذر أكثر من طور التقدم العام الذي حصل تقريباً بين عامي (1900 - 1950). ولأن الاستعمار الغربي تعلّم من التاريخ أن وصول الحركة الشعبية العالمية إلى ذروتها يعني نضوج الإمكانات الفعلية لإنهاء حقبة استعماره، فإنّه أوجد الكيان الصهيوني، ووضع خططه، ونفذها بالفعل، وبالطبع بالتواطؤ مع ما تبقى من الحكومات الطفيلية المحلية التابعة له. فما حصل وما زال مستمراً هو أن الاستعمار يجرّف تلك المناطق بالكامل من طاقات شبابها، ويزجها بالمحصلة في مقلاة العمل لديه، كونه يدرك أن قسماً كبيراً من شعوبه تعودت على مرحلة الوفرة والرفاه، التي اعتمدت على نهب حقوق الشعوب الأخرى. واقتراب فقدانه لهذه الميزة الأخيرة، والتي يمكن أن تُعدَّ الحجر الأساس في تقدمه الاقتصادي، يعني أن الاستعمار الغربي تحرك أكثر إلى داخل أراضيه، لتحقيق الربح من خلال التهام حقوق شعوبه الأساسية من الأجور التي كانت تتناسب مع السلة الغذائية، وقضم حقوق الضمان الاجتماعي والصحي، والتعليم والثقافة، والقانون المدني ومكافحة التهرب الضريبي. إن عقلية المستعمر لا تعمل وفق هدف واحد فحسب، إنما تعمل على تحصيل عدد كبير من الأهداف، وهنا نتوقع أنه في المنظور القريب سيَضرِبُ العمّالَ من الخلفيات المهاجرة مع العمال المحلّيّين.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1145
آخر تعديل على الثلاثاء, 24 تشرين1/أكتوير 2023 22:06