تمرين نظري: تطور السردية حول طوفان فلسطين
الكثير من الدم الفلسطيني (واللبناني والسوري) المراق بين الركام والدمار، وعلى النقيض منه، كبيرة هي شحنة القوة التاريخية للمقاومة، وعجز العدو وخسائره الإستراتيجية، وفي طيات الحدث الكثير من المعاني الجديدة. في متابعة لسردية و»لغة» تناول الأحداث التي تلت انطلاق عملية طوفان الأقصى، يمكن تلمس عملية تحول (وإن كانت في ملامحها الأولى) في هذه اللغة وهذه السردية من قبل مختلف القوى الفاعلة نظرياً وعملياً. وفي قلب هذا التحول نجد ملامح المرحلة التاريخية وضرورتها. وهنا إشارة إليه وإلى بعض دلالاته التاريخية.
ملامح السردية واللغة المستخدمة وتطورها
نقصد بالتحول في السردية ليس حصراً بأطراف تستند إلى موقع نظري محدد (كالماركسية مثلاً)، الذي عادة ما يكون أكثر موضوعية (وأقل أيديولوجية بمعناها الجامد) بسبب من دوافعه الثورية الأكثر جذرية، بل نجده عاماً، لدى الكثير من القوى الفاعلة عمليا ونظرياً. ومن موقع المادية التاريخية، يمكن النظر في تطور ونضج الرؤية إلى الحدث السياسي كاقتصاد-سياسي، وللحرب بالتحديد كتكثيف للسياسة ولقاعدتها الاقتصادية، ضمن شمولية العالم ووحدته، وفي حركته لا في ثباته. بينما تنتمي النظرات الأخرى الأقل تاريخية ومادية، والمنعزلة عن الاقتصاد، وعن النظرة الشاملة إلى العالم ووحدة حركته، إلى مواقع النظر التي تعتبر أكثر أيديولوجية بمعناها الجامد، أو بشكل عام، تنتمي إلى نظرات ضيقة هوياتية، قومية بمعناها الشوفيني، أو دينية بمعناها التسليمي، أو أي تحليل وحيد الجانب يتمسك بعنصر واحد من الظاهرة ويهمل باقي العناصر. إجمالاً يمكن القول إن مستوى السردية صار أكثر «إستراتيجية».
وفي الحدث الفلسطيني الحالي يمكن أن نلمس تطوراً في السردية واللغة التي تتناوله. لا يمكن استعراض مجمل ملامح هذا التطور، ولكن سنركز على جوانب رئيسية، تحضر فيها ملامح المرحلة وضرورتها، والتي تؤكد ليس فقط الطابع العام للحركة في هذه المرحلة، بل تساعد على استنباط أدوات العمل في مجالات أعم وميادين أرحب، على أرض الصراع الواسع والشامل العالمي المادي والروحي مع العالم المحتضر التي ليست الحرب الحالية إلا تعبيراً عن عنه.
وبالمباشر، عن تحول السردية، تطغى التي تربط الحرب بالحدث السياسي العالمي، وأزمة الرأسمالية، ودور القوى المتقدمة وأزمة القوى المتراجعة، ودور صراع الطاقة وتفتيت الدول، والإفلاس التاريخي للكيان مثلاً ومصيره، وموقعه في التاريخ، وانفتاح الأفق لواقع نوعي جديد، إلخ. ووزن هذا التحليل التاريخي المجرد و»المادي» ارتفع نسبياً على حساب تحليلات أخرى لها طابع أقل علمية، مهما كان طابعها القومي الديني العصبوي بمعناها السلبي والمحدود هنا، لا في الجوانب الإيجابية. والارتفاع في هذا الوزن يحضر لدى أصوات ما يسمى عادة «التيار المحافظ». هذا التيار المرتبط عملياً في الممارسة أكثر من غيره من القوى «المنظرة» من خارج الحركة.
الاقتراب من الضرورة النظرية
في مناسبات سابقة، أشير إلى أن ملمحاً رئيسياً في المرحلة الحالية هو أن احتدام التناقض، والترابط الشديد ليس الأفقي فقط بل العمودي أيضاً لمستويات البنية الاجتماعية، خلال عقود وعقود من تغول العولمة في نسختها الإمبريالية شديدة التركز والهيمنة، العمودي من خلال ترابط مستويات البنية الفوقية والتحتية بشكل قصر المسافة التحليلية بين الواقع المادي المعاش، وبين انعكاسه في الوعي ومختلف الميادين السياسية والأخلاقية والقانونية والقيمية والفنية...، والأفقي، عبر اشتداد ترابط الاقتصاد والسياسية والواقع الطبيعي على مساحة العالم وبين الدول والمجتمعات. هذا الاحتدام في التناقض والترابط الشديد أبرز مضمون النظام ونمط حياته. فما كان لا يظهر إلا من خلال التحليل النظري لبعض الأشخاص، صار واضحاً أكثر للغالبية. وهذا لا يعني أن الوعي العام تحول إلى وعي نظري يعي ذاته وأدوات تحليله بشكل ميكانيكي، بل إن حركة الواقع تفرض نفسها بوضوح للعين العادية. فمضمون الحركة يقترب أكثر من سطحها، أي يقترب جوهرها من شكلها. هذا يصح على طبيعة النظام الرأسمالي الذي يظهر عارياً اليوم بكل جوهره، اللاإنساني المعادي للطبيعة والمدمر للقوى المنتجة مادياً وروحياً والمشيء للإنسان، فهذا صار حاضراً للوعي العام. ويصح أيضاً على مختلف مستويات البنية الاجتماعية وميادين تمظهرها السياسية والاجتماعية وغيرها. وهنا حالة الحرب.
وزن القضية وترابطها وما تحمله من معانٍ والتكثيف الخاص بها
كون الحدث هو الحرب، والتي هي تكثيف وامتداد للسياسة، وكون القضية الفلسطينية والكيان يعود تاريخها إلى مرحلة صعود الاستعمار في المنطقة وتثبيت أقدامه، وكونه يحضر فيها دور النخبة الغربية مباشرة، وكونها ترقى إلى قضية إنسانية عابرة ترابطت عبرها المجتمعات، وتحديداً دول الأطراف، وبسبب من وزن المنطقة الجيوسياسي عالمياً، وترابط ملفات الطاقة والتجارة والحدود القارية، وتعدد القوى الفاعلة التي هي أساساً تعبير عن توازنات أخرى معقدة بدورها، إضافة إلى ذلك دور الإعلام والتكنولوجيا ومن يملكها واختلاف المواقع في استخدامها، كل هذا يجعل من حدث طوفان الأقصى نقطة انصهار للواقع العملي في حدته وشموله، ما يجعله منفذاً إلى باطن الحركة التاريخية اليوم وجوهرها نحو سطح الظاهرة. ولكن هذا الظهور يسمح به كعامل مساعد للأفق المتاح لإمكانية حل القضية التي هي أصل الحرب، أي قضية الاحتلال. والأفق هذا، هو التوازن الدولي الجديد للقوى، وتراجع الغرب. فاتضاح الأفق وطريق الحل يفرض نفسه على الوعي، وبالتالي يفرض سرديته وقاعدته النظرية بالضرورة.
ولأن تشكل القضية بالأساس كان انعكاساً لتوازن قوى دولي تاريخي في مرحلة ما وتعبيراً عن جوهر صراع هيمني على العالم فيه الطاقة وباقي مستويات الاقتصاد والتجارة، فإن حلها بالضرورة يحضر في أسباب تشكلها. وما إن أطل النقيض العالمي (قوى العالم الجديد) حتى كشف النقيض (قوى العالم القديم) عن نفسه. وانكشفت سرديته الضمنية إلى العلن. وما إن انكشفت سردية قوى العالم القديم، ستصير هي معيار النظر والحكم المهيمن بالضرورة. من جديد، ظهر جوهر الصراع الاقتصادي السياسي على مصير البشرية، وليس كقضية دينية عنصرية الطبيعة، ولو أن لها هذه الجوانب أو الأشكال.
بعض الخلاصات العامة
إن هذا التمرين النظري يسمح باستنتاجات يمكن تعميمها على ممارسة التغيير انطلاقاً من ملامح وديناميات هذه المرحلة. فهذا التحول في السردية يسمح بسهولة الانتقال في عمليات الوعي لدى الغالبية، وانتقال قوى بكاملها إلى مواقع جديدة ولو بشكل تجريبي، دون أن يكون لها من الخلفيات النظرية التي يعتبرها مثلا الماركسيون حكراً عليهم. وإذا كان ذلك كذلك، يمكن أن يحصل هذا الانتقال في قضايا أكثر حماوة وأكثر ارتباطاً بكامل البشرية وبطبيعة الرأسمالية ككل ومعنى التاريخ وقيمة الإنسان ومعنى وجوده، إلخ، ومنها قضية الانهيار الحضاري وطرح المشروع الحضاري الجديد. وهذا له مقدماته كما قلنا في مواد سابقة، حيث انكشف المضمون إلى الظاهر بسبب أزمة المشروع الحضاري، ولكن الذي لم يتبلور اليوم بعد، هو احتمال الحل. وماذا لدينا اليوم، لدينا فعلاً سرديات لها علاقة بأزمة المشروع الحضاري، والتي يتكلم بها الغالبية، الفاعلة والمأزومة في ذات الوقت، ولكن ما يهيمن على السرديات هو مقولات لا تاريخية (ثقافية، غيبية فردية تأملية، والأخطر عدمية في نتيجتها الممارسية وكذلك تطرفية وانغلاقية)، ولا مادية، بمعنى أنها منفصلة في معناها عن الواقع العملي ولا تعبر عن نمط حياة ممارسي معاش. والانتقال من سردية لا تاريخية في ميدان المشروع الحضاري النقيض، الذي هو نمط حياة نقيض، يحتاج إلى ظهور احتمال مسار الحل. وهذا يسمح بانتقال قوى ضخمة إلى مستوى السردية الجديدة المتلائمة مع طبيعة المرحلة ومع ضرورتها. هذا التمرين النظري كما غيره من تمارين ونقاشات يصب في صالح تطوير الهجوم على الجبهة الشاملة للإنسانية الأكثر تعقيداً وغير مباشر في حلّها، والتي لا تنفصل عن الجبهات الفرعية دموية الطابع المباشر كالجبهة الفلسطينية في حالتنا اليوم، كما غيرها من الجبهات الدموية، وإلا فإن العالم القديم سيظل يحتضر ومتمسكاً بتلابيب الحيّ، ويجرّه معه نحو قبره.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1144