الدورات الروحية التاريخية.. الفعالية.. العقلانية.. والانتقال الحضاري

الدورات الروحية التاريخية.. الفعالية.. العقلانية.. والانتقال الحضاري

من الآراء التي تدعم قضية الانتقال الحضاري تعود لبعض المفكرين من موقع الاشتراكية من الجيل الثالث في الغرب الذي بدأ مبكراً يعيش أمراض الليبرالية الفردانية الاستهلاكية. وتحديداً منذ الرشوة الكبرى في منتصف القرن الماضي. في هذه المادة سنعرض الخط الحاكم لهذه الآراء وما تحمله من تطور بعد عقود من الإفراط في النمط الفرداني وأمراضه ضمن إحداثيات المرحلة الراهنة. والخط الحاكم هو ما يمكن أن نسمّيه «الدورات الروحية التاريخية».

في تفاعل البنيتين الفوقية والتحتية

أحد أعراض الميكانيكية في الماركسية هو الفصل الاعتباطي بين مستويات البنية الاجتماعية كبنية واحدة، والعارض الثاني، هو تجميدها وهي في حركة وتدفق دائمين. والفصل بين مستويات البنية نجده في الغرق في الاقتصادية في فهم المجتمع وحركته. فالعامل الاقتصادي، قوى الإنتاج وعلاقات الإنتاج، ليس إلا العامل الأساسي «في نهاية المطاف وفي التحليل النهائي». والعامل الاقتصادي لا يوجد مستقلاً «تحت» باقي المستوى المرتبط بالوعي والعامل الذاتي والفعالية البشرية لأفراد حقيقيين، بل هو حاضر فيها، لا خارجها. والعلاقة بين المستويات هي علاقة داخلية. إذا الترتيب التحتي والفوقي ليس إلا رسماً تخطيطياً، بينما واقعياً يوجد المستويان في لحظة وجود واحدة. ما ينتج عن هذا الترابط، أولاً، علاقة التأثير بين المستويات، وثانياً، ينتج تشاركها في دورات مرحلية حسب خصوصية كل مستوى. واليوم الكل يتبنى تقسيم التاريخ إلى أطوار حسب التشكيلة الاقتصادية القائمة، أو بتقسيم كل طور من أطوار التشكيلة الاقتصادية إلى مراحل، أو بتقسيم كل مرحلة إلى دورات اقتصادية مثلاً. ولكن ما يضغط علينا اليوم هو تعميق فهمنا لأطوار ومراحل ودورات المستوى الفوقي للحياة الروحية ووعي الإنسان. وهذا الفهم هو استكمال وتطوير لقسم من الإنتاج النظري يخبو غالباً في أعراض الاقتصادية والميكانيكية.

الإنسان مركزاً للصراع

الصراع السياسي الطبقي يهدف إلى تحرير الإنسان. لا يهدف لأي شيء آخر مجرّد عن الإنسان الواقعي الموجود في الزمان والمكان. وكل ما يدور ضمن هذا الصراع من تنظير وتنظيم وتكتيك وإستراتيجية وغيرها... يخدم هدف تحرير الإنسان. حسناً، هذا بديهي، ولكنه يعني الكثير لناحية توصيف المرحلة وأزمة هيمنة النظام السائد، وبالمقابل «أزمة» المشاريع المواجهة. وهذا الإنسان ليس واحداً في كل الأطوار التاريخية، وليس متماثلاً مع كل انتقال بين طور وطور وبين مرحلة ومرحلة، والأهم من ذلك أنه ليس مطلق التطويع، بل له حدوده القصوى التي لا يمكن القفز عنها دون تغيير في هوية الإنسان ككائن عقلاني فاعل. أليس هذا هو التعريف الأكثر تجريداً للإنسان كظاهرة تاريخية؟ الإنسان، هو كائن يمثّل وعي المادة لنفسها ضمن تطور نشاطها وفعاليتها في الطبيعة والمجتمع. وباقي مظاهر الإنسان تنبع من هذا التوصيف عالي التجريد. وبالتالي، يجب أن تتم دراسة تحولات وتطور الإنسان كفاعل عقلاني واعٍ خلال الأطوار التاريخية وما هي دوراته الكبرى التي يمر بها، فالصراع هو بين هؤلاء البشر كتعبير شخصي عن الظروف المادية وضرورتها، فالضرورة التاريخية لا تنطق بلسانها الخاص، بل بلسان هؤلاء البشر، لأن الفاعلية والحركة لا توجد دونهم. وهنا نصل إلى عرض آخر هو الصنمية، فالضرورة التاريخية لا توجد كصنمية خارج الإنسان.

التمييز هذا ليس ترفاً

هذا التمييز ليس ترفاً فكرياً اليوم، بل هو ضرورة للتمييز بين النسخ المطروحة لفهم الأزمة الحضارية الراهنة، وبين النسخ المطروحة للحلول والمشاريع النقيضة. فالاعتبار الصنمي المثالي يقول اليوم بأن المستوى الاقتصادي هو فقط ما يجري عليه الصراع، ويجري استبعاد العامل الإنساني من هذا الصراع بمعنى تضمينه كمادة في الأزمة. ولأنه جرى استبعاده كمادة ضمن الأزمة، يجري استبعاده من المشروع الحضاري النقيض. وبشكل أكثر مباشرة يمكن القول، إن إنسان المرحلة يمثل تناقضات النمط الفرداني الاستهلاكي ويعبر عن أعراضه. وهذه التناقضات فاعلة ضمن الصراع، وعلى أساسها يجري تجيير طاقات اجتماعية لصالح مشروع التدمير والتفتيت. وأي استبعاد لحل هذه التناقضات الداخلية لهذه المادة البشرية يعني الوقوع في فخ «الاغتراب والصنمية» نفسه من خلال تشييء الإنسان، وإخراجه من الحركة والتاريخ معاً، فيصير هدف الصراع ليس الإنسان ككائن تاريخي ملموس، بل لأصنام اجتماعية ولمقولات مجردة مفرّغة من الإنسان.

تغييب القضية: عن «الصنمية الخاصة»

لا يمكن التفكير بالإنسان دون تتبّع التطور الحاصل لمقولة الاغتراب والانقسام الداخلي للإنسان. فهذه المقولة تضغط علينا اليوم بقوة، وما خبوّها عن التحليل الظاهر إلا دليل آخر على الصنمية والتشيء. فالإنسان الفاعل التاريخي نفسه، إن لم يضع في حسابه تجاوز أزمته الخاصة، التي هي أزمة النمط الفرداني الاستهلاكي نفسها، يكون هدف صراعه خارج ذاته. ونعتقد أن خبوّ مقولات الاغتراب عن التحاليل «النقيضة» يعود أحد أسبابه إلى عدم انتباه النخبة التي تخوض الصراع لأزمة الاغتراب لأن هذه النخبة تخوض نشاطاً ولها من الفعالية التاريخية التي تزيد أو تقل حسب عمق الرؤية التي تحملها هذه النخبة. وهذه الفعالية لها تأثير تمويهي لقضية الاغتراب. مثلاً، لنأخذ فرداً ما في حزب سياسي ما، هذا الفرد لديه من دائرة التأثير الاجتماعية وحاضنه «الروحي» إلى هذا الحد أو ذاك. وهناك لحد اليوم، وبمعزل عن تموّت ووهن أغلب الأجسام الثورية التقليدية، فإنها لا تزال تحمل زخماً لفعالية تراثية في البنيان الاجتماعي وتمد أعضاءها بمستوى من الشعور بالفعاليّة ما يسمح بنسب متفاوتة بين الأجسام وموقع كل فرد في هذه الأجسام، يسمح بتحويل هذه الفعالية «الخاصة» (الحزبية، النقابية، جهاز الدولة، فن، ...) إلى صنم يحل عبره هؤلاء الأفراد أزمتهم. وهكذا يصير صراعهم مفرغاً من قضية الاغتراب نفسها، فهم خاضعون لها إلى هذا الحد أو ذلك. والكلام طبعاً بالعام. هذا السبب برأينا يفعل فعله في تغييب قضية الاغتراب كقاعدة للتدمير اليوم وحلها يقع في صلب الانتقال الحضاري ومشروعه.

الدورات الروحية التاريخية

من جهة بدأ انقسام الإنسان الداخلي مع الانقسام الطبقي للمجتمع منذ خروج الإنسان من عصر المشاعة الأولى. ومن جهة أخرى، سار هذا الانقسام (وبسببه بشكل أساس) مع تطور لفعالية الإنسان في اكتشاف نفسه وعودته إلى ذاته في كونه غير خاضع للاستغلال وغير منقسم. صراع الانقسام والفعالية شهدا تحولات تاريخية حسب كل طور، وما الصراع الطبقي في كل طور ومراحله إلا تعبير عن تفاعل مساري الانقسام والفعالية. ولهذا يمكن القول، إن الدورة الكبرى التي مرت فيها الحياة الروحية للبشرية هي التي تجد التعبير عنها في انقسام العمل الذهني-الجسدي، فالأغلبية تعيش عالماً روحياً بنته لها قوة خارجة عنها تعمل لصالحها الخاص. وهذه الدورة الكبرى فيها مراحل محكومة بتطور معادلة انقسام ذهني-جسدي، التي تسير بشكل عام بخط تاريخي للسيطرة على الطبيعة والمجتمع وتوسع حضور الإنسان الفرد في العالم. فكل مرحلة كان يجري فيها توسيع لقدرات الإنسان الفرد ضمن المجتمع من جهة كتعبير عن تطور القوى المنتجة تقنيا وبشرياً، ومن جهة أخرى يتوسع فيها حضور العامل الذهني لدى القوى الخاضعة نتيجة شروط تفرضها كل تشكيلة حيث كانت الليبرالية الفردانية مقدمة تاريخية لحضور الإنسان الفرد فرضها تطور الصراع الطبقي عالمياً (وتحديداً بعد الرشوة الكبرى)، ولكن تم إخصاؤها كما يقول بعض منظري أزمة الإنسان. إذاً، وصلت الدورة الكبرى إلى منتهاها المنطقي في يومنا هذا. فالواقع فرض سؤال الإنسان الفرد نفسه عبر تبني النمط الحضاري السائد مقولة حرية الفرد. وهو ومنذ وقت رفعها يحاول تطويعها لصالح نظامه الاستهلاكي-الفرداني. ووصل هذا التطويع اليوم إلى حدوده التاريخية فصار تدميرياً لأن عودة الإنسان إلى ذاته تفترض فعاليته الحقيقية (فعالية صناعة التاريخ) لا صنمية الاستهلاك. هذه الدورة الكبرى هي التعبير المادي عن ذروة مقولات البحث في الوعي وعودة الذات إلى نفسها لدى هيغل التي تتحقق عبر أن يكون وجود الفرد ضرورياً لنفسه ولغيره.
في هذا التفاعل بين مستويات الوجود الاجتماعي، في مسار تحرير الإنسان الملموس لتجاوز الانقسام الداخلي للإنسان، وحل قضية اغترابه، يجب دفع برنامج الانتقال الحضاري إلى هذا المستوى التاريخي، ووضع شروط تنفيذه العملية لتعظيم الفعالية الإنسانية كقاعدة للعقلانية لوجود الإنسان. أليس ضرب الفعالية والعقلانية مركز مشروع البربرية المعممة؟! ولهذا يجب أن تكون صناعتهما وتعزيزهما في مركز المشروع الحضاري النقيض.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1140