التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني... مقامرة خاسرة!
نايا سلام نايا سلام

التطبيع الثقافي مع الكيان الصهيوني... مقامرة خاسرة!

تشير كلمة «تطبيع» عادةً في علم السياسة إلى عودة العلاقات السياسية والدبلوماسية إلى وضعها الطبيعي بين بلدين بعد حالة من القطيعة والحرب. وفي علم الاجتماع تشير إلى قبول بعض التصرفات التي كانت تعتبر شاذة وغير مقبولة اجتماعياً وجعل المجتمع يتعاطى معها على أنها طبيعية، أمّا التطبيع مع الكيان الصهيوني فهو قبول التعامل مع كيان استعماري عنصري، وشرعنته واعتباره «أمراً واقعاً» علينا إيجاد صيغ توافقية للتعاطي معه. وفي هذا السياق يتصوّر البعض أن كلمة «تطبيع» تقتصر فقط على الجانب السياسي، ولكنها في الحقيقة تتعدّى ذلك لتشمل جوانب أخرى فنية وثقافية وتجارية ورياضية وإعلامية.

«فصل الفن عن السياسة»

قد يكون من المفهوم –وغير المبرّر بالطبع- قيام بعض الدول العربية بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، إذ أنها ترى -وبعينٍ عمياء- أن مصالحها تتقاطع مع مصلحة الصهيوني، وهذا ينطبق تحديداً على الدول ذات الهوى الغربي، والتي تتأثر بكلّ هبّة هواء تأتي من الغرب لتسير معها وعلى خطاها، على أمل أن تساعدها الصهيونية والغرب من ورائها في تثبيت أقدامها في المنطقة، وقد يكون مفسّراً هرولة بعض رجال الأعمال للتعامل التجاري مع الشركات الإسرائيلية بحثاً عن الربح الأقصى في عالمهم معدوم القيم، ولكن ما الذي يدفع الفئات المصنّفة على أنها واعية كالفنانين والمثقفين إلى تطبيع علاقاتهم مع الكيان؟ لعلّ الإجابة التي سيجيبها هؤلاء ستصل في نهاية المطاف إلى فرضية «فصل الفن عن السياسة» والتي باتت حجةً قديمة وغير مقنعة، إلّا أنها تنمّ في الجوهر عن قصر نظر عالي المستوى في الحدّ الأدنى، وهو ما يضع إشارة استفهام كبيرة حول كلمة «مثقف» و»فنان» وواعٍ» من جهة وحول المساواة بينهم من جهة أخرى. فالمفروض في الحالة الطبيعية أن يكون الفن انعكاساً للمجتمع

ومعبّراً عنه ومؤثراً فيه، ولكن ما يحدث في حالات التطبيع التي يقوم بها بعض الفنانين هو إمّا شذوذ عن القاعدة، إذ إن المجتمعات -والعربية تحديداً- بفطرتها السليمة تدرك تماماً من هي «إسرائيل» تلك بحكم تجربتها الطويلة المباشرة وغير المباشرة معها، أو أنّ تشوّهاً ما طال وعي تلك المجتمعات تحت تأثير سلطاتها التي تملك أدوات التحكم بالوعي، فجعلتها تتعامل برخاوة مع موضوع التطبيع عموماً والتطبيع الفني والثقافي خصوصاً.

تطبيع الفنانين العرب وغطاء «حسن النوايا»

وفي هذا السياق قام العديد من الفنانين بتطبيع علاقاتهم مع الكيان الصهيوني تحت حجج واهية، فعلى سبيل المثال قامت الفنانة شمس الكويتية بزيارة «إسرائيل» لمقابلة ما قالت عنه أشهر طبيب عربي هناك يقوم بمعالجة القلوب المكسورة بقوة الطاقة، وقد قامت بكلّ «وقاحة» بتصوير نزولها من المطار، وتصوير صلاتها في قلب المسجد الأقصى وتوجيه تحية للفلسطينيين، بعد أن أطلقت على فلسطين اسم «إسرائيل» في إحدى مقابلاتها التلفزيونية. كذلك قام الفنان محمد رمضان بالتقاط صورة مع فنان «إسرائيلي» في دبي، وقام بتكرار الأمر ذاته مع مجندة في جيش الاحتلال في اليونان، إضافةً إلى صور أخرى جمعته برجال أعمال ولاعبين «إسرائيليين»، وقد جرى تداول هذه الصور تحت عنوان «الفن دائماً يجمعنا» في محاولة للتشويش على أعمال الكيان المغتصب في الأراضي الفلسطينية وللتغطية على مجازره والتعامل معه على أنه «كيوت» ويحب سماع الموسيقا والفن، ويسعى إلى «السلام». كذلك قامت فرقة «أوتوستراد» الأردنية بعمل مجموعة من المواقف المريبة والتي دعت حركة المقاطعة BDS إلى إعلان بيان لمقاطعتها بعد إحيائها حفلاً في مدينة الناصرة والدخول إلى فلسطين بتأشيرة من كيان الاحتلال، والحجة هنا كانت الحق في التواصل مع الجمهور الفلسطيني، والأمثلة على تطبيع الفنانين والفرق الموسيقية العربية وغير العربية كثيرة، وبغض النظر عن «حسن النوايا» التي يتذرّع بها البعض، والتي لا تبرّر أفعالهم بطبيعة الحال (إذ إنّ الإفراط في حسن النية هو أوّل مراتب السذاجة) ولكن الخطير فيها ليس الفعل بحدّ ذاته بقدر ردّ الفعل الذي يأتي من الكيان. إذ من المستحيل أن يمر حدث كهذا مرور الكرام من إعلام الاحتلال، فيسارع الأخير للتهليل والتطبيل والتزمير لأخبار كهذه، بوصفها تقدماً جديداً ينجز في إطار عمليات «السلام» و»التعايش». والمضحك المبكي هو أنه في الوقت الذي يقوم به الإعلام «الإسرائيلي» بنشر أخبار حول «السلام» يقوم جنود «إسرائيليون» ومستوطنون بالاعتداء على أطفال ونساء وشبّان فلسطينيين! ضمن صورة من أقبح صور النفاق وأكثرها عريّاً وعهراً.

التطبيع الثقافي «جعجعة بلا طحين»

ما يجعل من حركات التطبيع الثقافي -التي يسعى العدو لبروظتها واستعراضها إعلامياً- بلا جدوى حقيقية هما شيئان اثنان: الأول هي حركة المقاطعة BDS والتي تسعى إلى كشف كل أنواع عمليات التطبيع التي تتم مع كيان الاحتلال وتقوم بمناهضتها، وتحييّ في الوقت نفسه من يرفض التطبيع من الفنانين وغيرهم، بالإضافة إلى حملات أخرى يقوم بها فلسطينيون ومناصرون للقضية كحملة «افضح مطبّع» وغيرها من الأصوات التي تصدح وتُهزّئ وتستنكر أي عمل تطبيعي، والأمر الثاني هو تصرفات الكيان نفسه، والتي تؤكد يوماً بعد يوم وحشيته ولا شرعيته وتضع بذلك المطبعين معه في مأزق حقيقي يجعلهم في مرمى نيران التاريخ مرةً واحدة وإلى الأبد. فما يفعله هؤلاء – وسواء وعوا ذلك أم لم يعوه- هو عملية تزوير للتاريخ، وتعدّ على الهوية، وقبول بأكاذيب باطلة تقدمها الصهيونية للعالم.

مقامرة خاسرة بجميع الأحوال

لعلّه من المفيد في النهاية التذكير بالظرف الحالي الذي يمرّ به كيان الاحتلال من تفكّك داخلي، وصراعات إدارة حكم، واحتجاجات أهلية، والتي تشي باقتراب نهاية «إسرائيل» ككيان، وذلك على لسان مسؤوليها أنفسهم، إذ يقول إسحاق هرتسوغ «كل من يعتقد أننا لم نصل إلى مرحلة الحرب الأهلية، ليس لديه فكرة بأن الهاوية على مسافة قريبة» في إشارة واضحة وضوح الشمس إلى الضعضعة الداخلية التي يعيشها الكيان، ولعلّه من المفيد أيضاً في هذا السياق الإضاءة على الخسائر الفادحة التي تكبده فرع «كارفور» الإسرائيلي بسبب عدم الاستقرار الاقتصادي الذي يعاني منه الكيان حيث وصلت خسائره إلى حوالي 67 مليون شيكل وفق ما أعلنته حركة المقاطعة، وهذا ما يؤكد أن أي عملية استثمار كانت وأي عملية تطبيع سياسية أم تجارية أم فنية ثقافية ما هي إلا مقامرة خاسرة تضع من يلعبها في صراع حقيقي مع سؤال «الجدوى» إلى جانب وضعه في مزبلة التاريخ بطبيعة الأحوال.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1140