سمير الصايغ: جلسة ذِكِر مع الحروف
لا ينسى الشاعر والخطاط اللبناني المتفرّد ما آلت إليه اللغة، لكنه يسعى إلى إعادة الاعتبار إلى الحرف قبل أن يشتغل في خدمة الكلمات. معرضه «ألفٌ بحروف كثيرة»، الذي تحتضنه حالياً «غاليري أجيال»، طبعةٌ منقحة من مديحه الصوفي والفلسفي للأبجدية العربية.
يبحث سمير الصايغ (1945) عن حياة سابقة للحروف. عن ذاكرة الحرف قبل أن يشتغل في خدمة اللغة، ويصبح محكوماً بمواكبة اللغة والمعنى. معرضه الذي افتُتح أخيراً في «غاليري أجيال» بعنوان «ألفٌ بحروفٍ كثيرة»، وشهد توقيع كتاب/ ديوان بالعنوان نفسه، هو ترجماتٌ متعددة لهذا البحث الذي يختلط بتأملات عن الخط والحروفية والرسم والشعر والتصوف. هو بحثٌ في جماليات الحرف لا طموح إلى تجديد اللوحة الحروفية.
التطريب الذي ساد الحروفية لجهة إتقان رسم الحرف العربي، والتفنن في أنواعه وتصاميمه الشكلانية، متوافر بطرق وتقنيات مختلفة في شغل الفنان والشاعر اللبناني، الذي يلجم هذا التطريب، ويُجبره على أن يكون خافتاً وموارباً وداخلياً. كأن الحرف هنا يتأمل نفسه ويطلّ على ما يمكن أن نسميه مزاجاً جوانياً أكثر من مخاطبته الخارج أو المتلقي. الحرف مطالبٌ بأن يمثّل نفسه، وبأن يعود إلى أصله كرمزٍ أو لطخة تعبيرية أو مجرد أُحجية شكلانية تمتلك روحاً تجريدية مبكرة.
يضم المعرض 38 لوحة بأحجام مختلفة. بعضها مشغول بحرف واحد وواضح، وبعضها مشغولٌ بتعبيراتٍ حروفية تمتلك روحية تجريدية غير مبالية بأن تحصل على معنى واضح ونهائي. المعرض والديوان هما مقاربات ومدائح للحرف أو الخط الذي عليه «ألّا يسعى إلى إيضاح معنى اللغة أو أهداف اللغة، بل على العكس، عليه أن يسعى إلى إيضاح أهدافه»، وألّا «يتحول إلى وسيلة، فيخسر حضوره كفن مستقل قائم بذاته»، كما يقول الصايغ في مقدمة الديوان، الذي يستثمر اللغة الشعرية لإيضاح الفروق الكثيرة بين اللغة والخط، وبين حرف اللغة وحرف الخط، وعلاقة حركة اليد مع الخط الذي ترسمه، وعلاقة الحروف نفسها بالصوت الذي يُصدره نُطقها، أو علاقتها الافتراضية بالشكل الذي تُكتب به.
ومن خلال ذلك، يخلق الصايغ استعارات وصوراً وأسئلةً تكشف جماليات الحروف ومزاجها وفكرتها عن نفسها. الاستعارات تعيده إلى أرض الشعر والتصوف والفنون الإسلامية التي تدخلت في صياغة تجربته منذ البداية. لا ينسى صاحب «مقام القوس وأحوال السهم» (1980) ما آلت إليه اللغة في النهاية، لكنه يبدو كمن يعيدها إلى عناصرها ومكوناتها البدائية، أو يعيد الاعتبار إلى تلك المكونات، ويمنحها فرصة أن تتكلم عن أحوالها، فنقرأ أن «في اللغة الكلمة رسالة/ في الخط الكلمة حب/ سريعاً تهفو الهاءُ للعناقِ/ عناق الواو/ عناق الياء/ وعناق نفسها/ ها هي تعقد اليدين حول الصدر/ تخبىء وجهها بين الأصابع/ تلتفّ على بعضها».
ونقرأ نصوصاً قصيرة أو مونولوغات للحروف: «أنا الكافُ/ لي حظُّ التلفّتِ من علٍ/ ولي حظُّ الكمال والكفاية»، وتسأل الباءُ: «أهو الليل نفسه الذي حاصرنا في المرة الأولى؟»، بينما «العينُ للدمع»، و«الخاءُ لمحو الخطايا»، و«النون للقلم»، و«القاف للقصب»، و«السينُ سرابٌ»، و«تكادُ الشينُ تذوب بين العين والقاف».
يبدأ سمير الصايغ من الخط الكوفي، ثم يتجاوز الجانب الزخرفي والتنميقي الذي استُخدمت به الحروف. يقلِّبها على ممكناتها غير المكتشفة وغير المطروقة بهدف الوصول بها إلى «قراءة ما لا يُقرأ، وسماع ما لا يُسمع، ورؤية ما لا يُرى»، حيث «يخون الخط اللغة في الظاهر، ويتوحد معها في الباطن».
الاكتفاء بالحرف هو محاولة لكتابته كلغة بصرية سابقة للغة كوسيلة للتواصل التقليدي، بينما التقشف والزهد اللذان يرافقان هذه المحاولة يصنعان للصايغ مزاجاً تصوفياً، أو بالأحرى يعززان هذا المزاج الموجود سابقاً في ممارساته كشاعر وخطاط ورسام.
ليست الألف وحدها ممتدحة في المعرض والكتاب. إنها الحرف الصحيح غير المريض، وباقي الحروف هي كما جاء في «مخاطبات» النفّري «كلها مرضى إلا الألف»، لكنها ألفٌ تستدعي حروفاً كثيرة. إنها أبجدية تستعيد هويتها قبل أن تصبح كلمات وجملاً تامة المعنى. هناك لعبٌ على هذه الهوية أو الذات المستقلة عن المعنى. لعبٌ ومجازفاتٌ شكلانية وتعبيرية تتخلى فيها الحروف نفسها عن صورتها الكاملة أحياناً، فتتحول إلى أشباه حروف أو إلى متاهة مصغّرة لقطع وأجزاء متناثرة منها، حيثُ «الحرف حجابٌ، والحجاب حرفٌ»، حسب النفّري، الذي سيتكرر اسمه إلى جانب اقتباسات وأقوال لابن عربي والسُّلمي ابن البواب وابن مقلة وابن خلدون وغيرهم.
اللعب بمصائر الحروف وأشكالها هو طريقة لتدريبها على أداء بصري مختلف، وعلى جعلها تبث انطباعات مستجدّة إلى المتلقي. وهو ما سبق للصايغ أن فعله في معرضه «في مديح الحروف» (2009) الذي ترافق مع بيان مطبوع يمكن العودة إليه كنواة للكتاب المرافق لمعرضه الحالي، الذي يبدو مثل طبعة جديدة ومنقحة من رحلة سمير الصايغ الطويلة وتأملاته الفلسفية والرؤيوية في جماليات الخط والحرف، وفي كتابة الشعر المفتون بمعاجم المتصوفة، وفي ممارساته النقدية التي جرّب فيها أن يقدم قراءات مختلفة للفن الحديث.
البرزخ
لماذا ينبغي للحرف أن يستقلّ بذاته؟ لكي يخلق «لغةً» خاصة به، يقول سمير الصايغ، لكنّ سؤالاً آخر ينبثق من هذه الخلاصة، إذْ ما الذي يمنع أن يخلق الخط اللغة نفسها التي يحاول الاستقلال عنها؟ ألمْ يفعل ذلك في بدايات الخط العربي؟ ألم تنتهِ رحلة الحروف إلى الالتحاق بالكلمة والجملة العربية؟ لا بد أن صاحب «مذكّرات الحروف» (2003) يعرف ذلك، لكنه يجرّب أن يختبر استقلالية الحرف، وأن يستثمر إمكاناته، قبل أن يعثر على لغة. جاذبية الفكرة متوافرة في هذه المنطقة الفاصلة – الواصلة بين الخط واللغة. منطقة تشبه «البرزخ»، وهي صفة تجد صدىً لائقاً بها في تجربة الصايغ المنجزة بروحية التصوف في الشعر والرسم والخط.
المصدر: الأخبار