إنجلس: عن أراضي الشرق وخرائبها ولغات العرب والفرس
فريدريك إنجلس فريدريك إنجلس

إنجلس: عن أراضي الشرق وخرائبها ولغات العرب والفرس

«يرى بيرنييه بحقّ أنّ جميع تمظهرات الشرق... لها أساس مشترك، هو عدم وجود ملكيّة خاصّة للأرض، وهذا هو المفتاح الحقيقي حتى للسماوات الشرقيّة». بعث ماركس بهذه الملاحظة إلى إنجلس ضمن رسالته المؤرّخة في 2 حزيران 1853، التي نشرنا أبرز مقاطعها في العدد 1124 من «قاسيون»: «من مراسلات ماركس وإنجلس حول العرب والإسلام واليهود». بعد أربعة أيّام يردّ عليه إنجلس برسالة يتابع فيها النِّقاش، وفيما يلي أهمّ مقاطعها ذات الصلة.

تعريب وإعداد: ناجي النابلسي

في الحقيقة، يشكِّلُ غيابُ الملكية العقارية المفتاحَ للشرق برمّته، بتاريخه السياسي والديني. ولكن كيف نفسّر واقع كون الشرقييّن لم يتوصّلوا قَطُّ إلى مرحلة الملكية العقارية، ولا حتى في نوعها الإقطاعي؟ هذا، فيما أعتقد، ناجمٌ إلى حد كبير عن الـمُناخ وطبيعة الأرض، ولا سيّما المساحات الصحراوية الممتدّة من الصحراء الكبرى إلى شبه الجزيرة العربية وفارس والهند وتتاريا «جزء من تركستان بحسب تسمية القرن 19»، وحتى ذرى النُّجود الآسيوية. ففي تلك الأراضي يشكِّلُ الرِّي الاصطناعي الشرطَ الأوّل للزراعة، وتقع مسؤوليّته على المشاعات أو الإمارات أو الحكومة المركزية. في الشرق، كانت الحكومةُ تتكوّن دوماً من ثلاثة أقسام فقط، الماليّة (نهب الداخل)، والحرب (نهب الداخل والخارج)، والأشغال العامّة لتأمين تكاثر السكّان. ضيَّقَ الحكمُ البريطاني للهند تأويلَ الرقمين واحد واثنين أعلاه، بينما أهمل الرقم ثلاثة بالكامل، بحيث سينتهي الأمر بالزراعة الهندية إلى الخراب والدّمار. فالمزاحمة الحرّة تثبت فشلاً ذريعاً هناك. واقعُ أنّ الأرضَ كانت خصبةً فقط بفضل وسائل اصطناعية، وتنتهي خصوبتها فوراً عند تعرّض قنوات الرِّي إلى الإهمال، يقدِّمُ التفسيرَ للظاهرة– التي لولاه لكانت مستغرَبة– بأنّ أراضيَ شاسعة باتت اليوم مُخلَّفاتٍ قاحلة رغم أنّها كانت في الماضي مزروعةً بشكلٍ رائع (تدمر، البتراء، والأطلال في اليمن، وعددٌ من المواقع، أيّاً تكن، في مصر وفارس وهندوستان)؛ هذا يفسّر واقع أنّ حرباً واحدةً مفردةً مدمِّرة، كانت كفيلةً بتخفيض عدد سكان بلدٍ ما، وتجريده كلّياً من حضارته لقرونٍ لاحقة. أعتقد أنّ هذا يفسِّر أيضاً الدمار الذي لحق بالتجارة العربية الجنوبية قبل زمن محمّد، وهو صَرْفٌ كُنتَ أنتَ «يا ماركس» محقّاً تماماً عندما اعتبَرتَهُ أحدَ الرّوافِع الرئيسة للثورة المحمّدية. لستُ على درايةٍ جيّدة بتاريخ التجارة خلال القرون الستّة الأولى بعد الميلاد، لأتمكّنَ من الحكم في مسألة، إلى أيّ مدى كانت الشروط الماديّة العامّة في العالَم تجعل طريق التجارة عبر فارس إلى البحر الأسود وإلى سورية وآسيا الصغرى عبر الخليج الفارسيّ، طريقاً أفضلَ من طريق البحر الأحمر. وعلى كلّ حال، لا بدّ أنّ أحد العوامل المهمّة كان الأمانَ النّسبي للقوافل في الإمبراطورية الفارسية المنظَّمة جيّداً تحت حكم الساسانيّين، بينما كانت اليمن بين عامَي 200 و600 بعد الميلاد، عرضةً باستمرار للإخضاع والهزيمة والنهب مِنَ الأحباش. ولم يحلّ القرن السابع على مدن جنوبي شبه الجزيرة العربية، التي كانت مزدهرةً في زمن الرومان، إلّا وقد تحوّلت إلى قِفارٍ حقيقيّةٍ خَرِبة؛ وفي جوار تلك المدن اعتنقتْ قبائلُ البدو التقاليد التي كانت خلال 500 عام مجرّد خرافاتٍ وأساطير حول أصولها (قارن: القرآن والمؤرِّخ العربيّ النُّفَيريّ– ملاحظة إنجلس نفسه)، وطوى النسيانُ الكتابةَ بحكم الأمر الواقع، إذ كانتْ الأبجديةُ التي كُتِبَتْ بها النقوشُ المحلّية مجهولةً بالكامل تقريباً، رغم غياب أيّة أبجديّةٍ أخرى. أشياء من هذا القبيل لا تَحكم على نفسها بأن «تُزاحَ» فحسْب، ربَّما بسبب شروط تجارية عامّة، بل وأن تدمَّرَ بعنفٍ سافرٍ كذاك الذي لا يُفسَّر إلا بالغزو الحبشيّ. ولم يُطرَد الأحباشُ حتّى 40 عاماً تقريباً قبل محمّد، وشكَّلَ طردُهم بوضوحٍ أوَّلَ فعلٍ في يقظة وعي العرب القوميّ، والذي استُنهِضَ أكثر لاحقاً بسبب غزوات الفُرس من الشمال اختراقاً حتّى مكّة. لن أنخرط في تاريخ محمّد بحدّ ذاتِه حتّى بضعة أيامٍ قادمة على الأقل؛ حتّى الآن يبدو لي أنّ تاريخَهُ يمثِّلُ ردّة فعلٍ بدويّة ضدّ فلّاحي المدينة المستقرِّين ولكنْ المتفسِّخين، الذين كان دينُهم أيضاً أكثر انحطاطاً وقتذاك، ومؤلَّفاً من شكلٍ متداعٍ من عبادة الطبيعة مع شكلٍ متداعٍ من اليهودية والمسيحيّة. «ملاحظة: على حدّ عِلم المعرِّب فإنّ بقيّة المقاطع أدناه تظهر في العربية هنا لأوّل مرّة».
ولمّا كنتُ، بأيّ حال، عالقاً منذ أسابيع في طقوس البَهرَجَةِ الشرقيّة، فقد انتهزتُ الفرصةَ لتعلُّمِ اللّغة الفارسيّة. لقد أرجأتُ العربية، وذلك جزئياً بسبب كُرهي للّغات السّاميّة منذ نعومة أظفاري، وجزئيّاً بسبب استحالة تحصيل أيّ تقدُّمٍ دون إنفاقِ مقدارٍ كبيرٍ من الوقت على لغةٍ بهذا الاتّساع– تحوي 4000 جذر، وتعود إلى ما بين 2000 و3000 عامٍ مضى. بالمقارنة مع العربية فإنّ الفارسية لعبةُ أطفال مطلَقة. ولولا تلك الأبجدية العربية اللَّعينة، التي تبدو فيها كلُّ نصفِ دزّينة من الأحرف مشابهةً لكلّ نصفِ دزّينة أخرى، والتي لا تُكتَبُ فيها الأحرف الصَّوتية، لكنتُ تعهّدتُ بأنْ أتعلّمَ القواعدَ بأكملها في غضون 48 ساعة. هذا يعطي تشجيعاً أفضل لـ بيبر في حال شعرَ بحاجةٍ ملحّة لمجاراتي في هذه الدُّعابة البائسة. فلقد وضعتُ لنفسي ثلاثةَ أسابيعَ كحدٍّ أقصى للّغة الفارسية، فإذا راهَنَ هو عليها بشهرَين فسيغلبني على أية حال. يا لها من خسارةٍ أنّ فايتلينغ لا يستطيع التحدّث بالفارسية؛ وإلّا لكانَ امتلكَ «لغته الكونيّة» جاهزةً، لأنّها على حدّ علمي اللّغة الوحيدة التي لا خلاف فيها بين «إيّاي» و«لـي»، فحالتا الجرّ والنّصب فيها متماثلتان دوماً.
من الممتع، بالمناسبة، قراءة حافظ القديم المُنحَلّ، في لغته الأصلية. «يقصد إنجلس الشاعر الفارسي شمس الدين محمد حافظ الشيرازي 1326-1390م». إنّ السِّير وليام جونز العجوز يحبّ أن يقتبس منه على أنّه يمثّلُ دُعاباتٍ فارسيّةً مشبوهة، وتَرجَمَ عنه فيما بعد إلى نثرٍ باللغة اليونانية في «تعليقات على شعراء آسيويّين»، لأنّ أشعار الشيرازي حتّى في ترجمتها اللاتينية بَدَتْ له فاحِشةً كثيراً. ولسوف تتسلّى بقراءة تلك التعليقات في أعمال جونز، المجلد الثاني، بعنوان «الشعر الشهوانيّ». بالمقابل، فإنّ النّثر الفارسي مملٌّ قاتِل. على سبيل المثال: «روضة الصفا» للنّبيل ميرخوند، الذي يسردُ الملحمةَ الفارسية بلغةٍ ورديّةٍ جدّاً ولكنْ فارغة. «يقصد إنجلس كتاب محمّد خاوندشاه المعروف بـ ميرخوند أو ميرخواند أو خواندمير المتوفّى سنة 903 هـ (1498م)، والعنوان الكامل لكتابه في سبعة مجلّدات هو: «روضة الصَّفا في سيرة الأنبياء والملوك والخُلَفا» – ملاحظة المعرِّب». وعن الإسكندر الكبير «المقدوني» يقولُ جونز بأنّ الاسم «إسكندر» في اللغة الأيونيّة، هو «أكشيد روس» (مثلما أنّ «إسكندر» إصدارٌ فاسد من «ألكسندروس»)؛ وبالمعنى يشبه كثيراً كلمة «فيلسوف» المشتقّة من «فيلا» (الحبّ) و«سوفا» (الحكمة)، وبالتالي يكون «إسكندر» مرادفاً لـ«صديق الحكمة».
ويقول ميرخوند عن ملكٍ «متقاعِد» إنَّه «قَرَعَ طبلَ التّنازل عن العَرش بعِصيِّ التقاعُد»، كما كان سيفعلُ الأب فيلليش فيما لو تورّط بعمقٍ أكثر في المعركة الأدبية. سيعاني فيلليش أيضاً من المصير نفسه الذي أصاب الملك أفراسياب الطُّوراني عندما هجَرَهُ جنودُه، والذي يقول عنه ميرخوند «لقد قَضَمَ أسافينَ الرُّعب بأسنانِ اليأس حتّى انبثقَتْ دماءُ الوعي المقهور من أطرافِ أصابع العار».
أوافيكَ بالمزيد غداً.
وهنا تنتهي رسالة إنجلس. «قصد إنجلس على الأرجح «أوغست فيلليش» (1810-1878) الذي كان ضابطاً في الجيش البروسيّ، ثم انضمّ إلى عصبة الشيوعيين، وقاد زمرةً انشقّت عنها عام 1850 وهاجر إلى الولايات المتحدة الأمريكية عام 1853، وأصبح جنرالاً في جيش الاتحاد أثناء الحرب الأهلية الأمريكية. أمّا الملك أفراسياب الطوراني فهو شخصية أسطورية ودينية مهمّة لدى الفرس، ذُكِرَ في «الشاهنامة»، وهو بحسب معتقداتهم أحد الأرواح الشريرة الثلاثة التي أصابت بلاد فارس بأعظم الكوارث، والآخران هما الضحَّاك والإسكندر المقدوني– ملاحظات المُعرِّب».

المصدر: المجلد 39 من الأعمال المجمَّعة لماركس وإنجلس (الطبعة الإنكليزية، موسكو 1983، ص339–342).

معلومات إضافية

العدد رقم:
1133