«المادة البشرية الجديدة» بين لينين وتركة الليبرالية (2)

«المادة البشرية الجديدة» بين لينين وتركة الليبرالية (2)

في المادة السابقة، ومن خلال الاستفادة من بعض الدروس التاريخية المبكرة (والتي نعتقد أنها الأوضح من حيث تبلورها) للتجربة السوفييتية، حاولنا مقاربة مهمة مركزية في عملية الانتقال-البناء الحضاري (النمط لأجل الآخرين ولأجل الذات) النقيض للنمط الاستهلاكي-الفرداني (النمط لأجل الذات حصراً). القضية المركزية كانت في تحويل «المادة البشرية القديمة» مع التحول الضروري في الموقف من العالم والقدرات والمعارف والمهارات وكل النفسية الفردية. وهنا استكمال لما سبق.

الشكل التنظيمي المناسب

هناك قضية مهمة يجب التوسع بها هي التنظيم الاجتماعي-السياسي الذي يناسب مهمة تحويل المادة البشرية وتشكيل الكتلة التاريخية في آن. وكما أشرنا في المادة السابقة، كان التوتر في عملية بناء المادة البشرية الجديدة لصالح التناقض بين الفئات الطبقية المختلفة. فالفئات المثقفة والعلمية والتنظيمية والإدارية كانت تحمل الموقف الليبرالي وعقليته ونفسيته (كالتذبذب والأذواق الفردانية البورجوازية الصغيرة التي هي أقل فعالية في الحركة التاريخية)، ولهذا تطلب «الرقابة عليها» من قبل الفئات العمالية-البروليتارية (التي لها عقلية أكثر انضباطاً واقل تذبذباً) من خلال أجسام كـ«هيئة التفتيش العمالي والفلاحي» مثلاً. ولكن أخذاً بعين الاعتبار التفارق بين المرحلتين كما أشرنا في المادة السابقة، فنحن شهدنا تحولاً في بنية الفئات العمالية لناحية توسع هوامش ذوقها البورجوازي الصغير، والعقلية-النفسية الفردانية، بعد عقود الليبرالية والهيمنة الهجينة (الثقافية والصراع على الوعي، مع الأخذ بالاعتبار الفروق بين المجتمعات لناحية هوامش وأشكال النموذج الفرداني المطبق)، ومن جانب آخر، شهدنا انحداراً نحو الوجود الرث والعدمية لدى مختلف الطبقات (هذا ما نجده تحديداً في البنى الطرفية الأكثر هشاشة، وفي بنى المركز الغربي الذي يشهد التعطل والسردية الليبرالية مع ضيق هوامش المناورة لنموذج الرفاهية الذي شكل القاعدة المادية للنمط الفرداني-لأجل الذات). وهذا يتطلب فهماً جديداً لأشكال التنظيم والانضباط والرقابة. فالسياق «اللينيني»، فرض رقابة من الخارج على الفئات الطبقية «المثقفة والمتعلمة والإدارية والتقنية»، بينما اليوم نحن أمام تعقيد أعلى. فالفئات العمالية-البروليتارية نفسها، تعيش تناقضاً داخلياً يجعل منها أقل «صفاء» في هذا الجانب «الثقافي-العقلي-النفسي»، ويجعل من دورها الرقابي محل نقاش وبحث، حتى لا نقول أقل فعالية. إذاً، هل نحن أمام حلقة مغلقة؟ بالطبع لا. المخرج هو في الفهم الكلي للمجتمع البشري، أي في الأوزان العالمية-«الأممية» للفئات الإجتماعية. فكما نفهم اليوم المستوى السياسي من خلال فهم الوزن الأكبر للمشهد العالمي، لصالح وزن أقل نسبياً للداخل الوطني، علينا أن نفهم هذا التعقيد في عملية التربية من خلال التوازن العالمي «الثقافي-النفسي» كذلك.

التعقيد يفرض تحولاً في التوقيت أيضاً

في المادة السابقة قلنا إن مسألة تحضير المادة البشرية الجديدة فرض نفسه بعد عملية السيطرة السياسية، أو بلغة غرامشي، بعد تشكّل «لحظة القوة». وذلك استناداً إلى أن مَن شكّل قاعدة القبض على السلطة هي فئات اجتماعية أكثر «صفاء» من الناحية الثقافية-النفسية وموقفها من العالم (أي البروليتارريا). وبالتالي كان يمكن القيام بالانتقال بتلك القوة والزخم التاريخي. بينما اليوم، فإن الشكل الهجين للعقلية والموقف من العالم لدى مختلف الفئات الطبقية ومنها الفئات العمالية تحديداً يسمح بالقول بأن «الصفاء» في التربية والثقافية لم يعد موجوداً كما في السابق. لنأخذ الموقف من العالم وأذواق القوى الاجتماعية في كل من روسيا والصين، سنجد الموقف الفرداني بالمعنى اليومي لمماررسة الأفراد، على الرغم من الموقف السياسي الوطني المعادي للإمبريالية مثلاً، وهذا التناقض هو الذي يجب التحذير من انفجاره لدى طغيان الموقف الفرداني على حساب الموقف السياسي-الوطني. أليس هذا هو الموقف الذي تطور في الاتحاد السوفياتي وأفقد المجتمع فعاليته السياسية وموقفه من «نظامه السوفييتي»؟ إذاً، فإن غياب الصفاء يفرض عملية تحويل متزامن عبر اندماج عملية «السيطرة على السلطة» (لحظة القوة حسب غرامشي) مع «البناء الاجتماعي الجديد» وتقديم النمط الحضاري-الثقافي النقيض (أي لحظة القبول حسب غرامشي) حيث تتبنى القوى الاجتماعية موقفاً جديداً من العالم ونمط حياة جديد. تزامن لحظة القوة مع لحظة القبول هي المعادلة التي ترافق توصيف المرحلة بأنها عملية انتقال متزامن عالمية.

وزن المشروع الحضاري النقيض

إذا اعتبرنا بأن عملية الانتقال هي متزامنة عالمياً، وإذا اعتمدنا التزامن بين لحظة القوة ولحظة القبول، فإن المخرج الضروري من ضعف العنصر «الصافي» (الأكثر انضباطاً وأكثر فعالية)، هو بالاعتماد على الوزن الأممي لحساب التوازن في الفئات الاجتماعية. وتحديداً القوى الحية الناجية من عقود الليبرالية، الأكثر والأرقى تنظيماً. هذا يعني بشكل مباشر أن القوى التي تشكل اليوم رأس حربة سياسية-اقتصادية-عسكرية عليها أن تكون رأس حربة ثقافية، بمعنى تقديم نمط حياة نقيض على قاعدة «الوجود لأجل الآخرين كمدخل للوجود لأجل الذات». تقديم هذا المشروع الحضاري هو القادر على تحرير القوى الاجتماعية من تناقضاتها الداخلية، أي حلّه، من خلال كسر الشكل الفرداني «القديم» (الوجود لأجل الذات فقط) وتحرير الجوهر «الجديد» (الوجود لأجل الآخرين من خلال الوجود لأجل الذات). فالقوى الاجتماعية الحالية كما قلنا متناقضة داخلياً. فكل ما قلناه سابقاً هو أن الحاجات الفردية لا يجري التعبير عنها وتحقيقها من خلال نمط حياة متمحور حول الذات والاستهلاك. وهذا ما أنتج المستوى المرتفع والصريح من الاغتراب والصراعات النفسية والعقلية الراهنة، وحتى تعطّل العقل ووحدته، ما أنتج «الوجود الميت» غير الفعال (حسب لغة الديالكتيك نفسها). وبالتالي، فإن الحاجات الفردية الأكثر تجريداً، أي تحصيل الاعتراف والقيمة والمعنى والتي تقود باقي الحاجات الأقل تجريداً، والتي هي المعبر عن الجوهر «الجديد» وحامل النمط الاجتماعي-الحضاري الجديد، نمط صناعة التاريخ، و«الوجود لأجل الآخرين كمدخل للوجود لأجل الذات»، أي تحصيل المعنى والاعتراف من خلال الانخراط في عملية البناء الاجتماعي-السياسي وإدارتها، هذه الحاجات تحتاج إلى شكل «جديد» متلائم مع الجوهر «الجديد». والشكل الجديد يجب أن يكون بالضرورة مشروعاً ثقافياً يتضمن هذا الموقف الجديد من العالم، ويمد الفئات الاجتماعية بالمعاني الجديدة والتصورات القادرة على تحرير جوهرها العقلي المأزوم والذي يتناقض مع الشكل القديم الفرداني. هذا المشروع يجب أن يملكه أيضاً جدول أعمال جديد، ممارسي على المستوى اليومي حيث يتعقلن ويتوقعن الموقف الجديد من العالم، أي كعادات وكنمط حياة.

خلاصات عامة

إن توفير هذا المشروع الحضاري قادر أولاً على منع انزلاق القوى الاجتماعية باتجاه الوجود الرث والعدمية من خلال الأزمة الوجودية لحياة مفرغة من المعنى. وهو أيضاً يمد القوى الاجتماعية بالدافعية المطلوبة لتحمّل صعوبات الحياة المادية المباشرة، ويمدها بصورة المستقبل الضرورة. أي بمشروع يشبه حاجاتها وأفكارها اليومية التي تصارع الشكل الفرداني المأزوم. هذا بما خص القوى الاجتماعية على مستوى العالم، وبالتالي تشكيل مشروع أممي جامع يصب بالضرورة في مصلحة عملية الانتقال العالمي، وتشكيل الكتلة التاريخية الاجتماعية التي تتحول بسهولة إلى كتلة سياسية فاعلة، وتحديداً في دول الغرب المركزية والأطراف الهشة. هذه القوى موجودة وبقوة، وهنا دور المشروع النقيض في «تربيتها». هذا هو التعبير الملموس عن تزامن لحظة القوى مع لحظة القبول. أما في تلك الدول التي تقدر على تحويل هذا المشروع الحضاري مبكراً إلى مهام عملية، فهذا نفسه يسمح ليس فقط بتحصين القوى الصاعدة، بل بتطويرها. هذا النقاش تعبير عن التعقيد العالي للمرحلة.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1132