مهرجان «كان» نوري بيلج جيلان قاب قوسين من السعفة!
 عثمان تزغارت عثمان تزغارت

مهرجان «كان» نوري بيلج جيلان قاب قوسين من السعفة!

جاء الأسبوع الأول من الدورة 67 باهتاً وهزيلاً. وحدهما فيلمان كسرا الرتابة، هما «تمبكتو» للموريتاني عبد الرحمن سيساكو الذي شكّل عرضه لحظة ستبقى ماثلة في ذاكرة رواد الكروازيت لأعوام. أما المحطة الاستثنائية الثانية، فتمثلت في رائعة المعلّم التركي الجديدة «سبات شتوي».

مع دخول «مهرجان كان السينمائي الدولي ٦٧» أسبوعه الثاني، بدأت معركة الترجيحات والتوقعات بخصوص السباق على السعفة الذهبية. لكن حصاد الأسبوع الأول كان باهتاً وهزيلاً. لا نجد سوى قلة نادرة من الأفلام التي لم تخيّب الآمال. أغلب عروض «الكبار» الذين يراهن عليهم المهرجان عادة للحفاظ على فرادته وتميزه، جاءت مخيبة أو نمطية، من سقطة مايك لي المدوية (مستر تورنر) إلى ارتماءة أتوم إيغويان (فيلمه «أسيرة» ـ الأخبار 17/5/2014) المفاجئة في أحضان الماكينة التجارية الهوليوودية.

في الوقت ذاته، غابت المفاجآت التي تصنع عادة ملح المهرجان. لم يلفت الأنظار أي من الأفلام الخمسة المعروضة حتى الآن في سباق «الكاميرا الذهبية» التي تكافئ باكورات المخرجين الجدد الذين يقدمون أعمالهم الأولى على الكروازيت.

هذا الوجه الباهت الذي طبع عروض المسابقة الرسمية ضاعف الانتقادات الموجهة إلى خيارات إدارة المهرجان، وخصوصاً في ما يتعلق بإقصاء بعض الأفلام التي رأت غالبية النقاد هنا أنّها تستحق دخول المسابقة الرسمية، وفي مقدمتها «الغرفة الزرقاء» الذي اقتبسه الفرنسي ماثيو أمالريك عن رواية جورج سيمينون الشهيرة بالعنوان ذاته، و«أهلاً في نيويورك» الذي استوحاه السينمائي الأميركي المشاكس أبيل فيرارا من الحادثة الشهيرة التي أطاحت الطموحات الرئاسية لرئيس صندوق النقد الدولي سابقاً، السياسي الفرنسي دومينيك ستروس كان، إثر فضيحة اعتدائه جنسياً على عاملة تنظيف أفريقية في فندق «سوفيتيل» في نيويورك عام 2011.

إدراج «الغرفة الزرقاء» ضمن تظاهرة «نظرة ما»، بدلاً من المسابقة الرسمية، أثار تساؤلات كثيرة، وخصوصاً أنّ برنامج المهرجان يخصّص للسينما الفرنسية في كل دورة، نصيباً استثنائياً لا يقل عن خمسة أفلام في التشكيلة الرئيسية. ما عرض حتى الآن من الأعمال الفرنسية التي وقع عليها الاختيار، كان مخيباً للتوقعات، ما جعل النقاد يستغربون استبعاد فيلم أمالريك من سباق السعفة، هو الذي حظي بحفاوة كبيرة، حتى إن البعض قارن حبكته الإخراجية المحكمة بالمعلم الكبير ألفريد هيتشكوك. أما فيلم ابيل فيرارا، فقد استُبعد بالكامل من البرنامج الرسمي للمهرجان، لكنّ فريق الفيلم أصر على الحضور وتقديم عرضين غير رسميين، في فضاء «سوق الأفلام» التي تقام على هامش المهرجان.

لم يتجاوز البرنامج الرسمي الخمول العام الذي خيم عليه طوال الأسبوع الأول من هذه الدورة إلا في مناسبتين فقط. تمثلت الأولى في فيلم «تمبكتو» للموريتاني عبد الرحمن سيساكو (راجع «الاخبار» ١٦5/ 2014) الذي شكل عرضه لحظة مؤثرة ستبقى ماثلة في ذاكرة رواد الكروازيت لأعوام. أما المحطة الاستثنائية الثانية، فتمثلت في رائعة نوري بيلج جيلان الجديدة «سبات شتوي». هذا المعلم التركي الكبير خطف سابقاً «الجائزة الكبرى» (ثاني أهم الجوائز في «كان») مرتين: عام ٢٠٠٣ عن فيلم «بعيد» الذي صنع شهرته على الساحة السينمائية العالمية، ثم عام ٢٠١١ عن تحفته المينيمالية «حدث ذات مرة في الأناضول». كذلك فإنه فاز بجائزة أفضل إخراج عام ٢٠٠٨، عن رائعته «ثلاثة قرود» التي يعدها النقاد عمله الأكثر نضجاً واكتمالاً. أجمع جمهور الكروازيت وقتها على أنها كانت تستحق جائزة أهم. وها هو يعود فينال إجماع النقاد والجمهور، هذه السنة. عُدّ جديده «سبات شتوي» الحدث الأبرز في عروض الأسبوع الأول من هذه الدورة. ورأت غالبية النقاد أنّ البنية الإخراجية الساحرة لهذا الفيلم تضع صاحبه على عتبة السعفة الذهبية، بعدما ذاق كل جوائز المهرجان الأخرى، ليتكرّس اسمه نهائياً ضمن عمالقة الفن السابع.

ككل أفلام بيلج جيلان، تدور أحداث «سبات شتوي» في الديكور الطبيعي لمسقط رأسه في ريف الأناضول، وتروي قصة ممثل مسرحي متقاعد يرث عن والده فندقاً سياحياً صغيراً ومجموعة بيوت مؤجرة لعائلات فقيرة من أبناء المنطقة. يستقر هناك برفقة أخته المطلقة وزوجته الشابة. تبدو حياة العائلة مستقرة وهنية. الزوج «آيلين» يقضي أغلب وقته في الكتابة، عاكفاً على تأليف كتاب عن تاريخ المسرح التركي، فضلاً عن مقالة أسبوعية ينشرها في صحيفة محلية، ويخصّصها لمواضيع ذات نفس إنساني وبيئي، يدافع من خلالها عن حقوق البسطاء من سكان الأرياف المعزولة، وعن التراث الطبيعي المهدد بالزحف العمراني والتدفق السياحي. تدفّق يزج بأرياف الأناضول الجميلة في أتون العولمة التي تسعى إلى تنميط حياة سكانها وفقاً للمعايير الاستهلاكية الغربية. أما أخته «نهلة»، التي تقاسمه النفس الإنساني والميول اليسارية ذاتها، فتقضي وقتها في القراءة والتأمل الفلسفي، فيما تخصص زوجته الشابة «نجلاء» التي تصغره بثلاثة عقود كل وقتها وجهدها للأعمال الخيرية في خدمة الأطفال المحرومين ونساء الأرياف المهمشات.

كالعادة، في أفلام بيلج جيلان، يدب الشرخ تدريجاً في الواجهة المشرقة لحياة هذه العائلة السعيدة، لتتكشف أسرارها ومشاكلها الحميمة، من خلال بورتريه نفسي ثلاثي، تتشابك فيه رغبات وآمال وخيبات شخوصه الثلاثة. ينحت المخرج هذا البورتريه النفسي تدريجاً على مدى ثلاث ساعات وربع (يعد الفيلم أطول عروض هذه الدورة)، في مشاهد مطولة ذات إيقاع شديد البطء، تدور أغلبها في الفضاء المغلق لمنزل العائلة الريفي، ومختلف الأجنحة الملحقة به، كالفندق، ومكتب الممثل العجوز، وشقة نوم زوجته، والجناح المخصص لأخته...

هذا البورتريه الجماعي الذي يرصد الشرخ النفسي بين أفراد عائلة واحدة، يشكّل لازمة في كل أعمال بيلج جيلان، لكنه في جديده تعمّد مراوغة مشاهديه ومحبّي أفلامه الذين توقعوا أن يكون الشريط تنويعاً على عمله الأشهر «ثلاثة قرود». وإذا بالحبكة النفسية التي رسم ملامحها بدقة جرّاح، تسفر ــ خلال الثلث الأخير من الفيلم ــ عن انقلاب جذري في نظرة كل واحد من شخوص الفيلم إلى نفسه وإلى الآخرين. وهو ما قارنه البعض بعوالم ألبيرتو مورافيا، خصوصاً راويته الأشهر «الانتباه». الممثل العجوز، بطل «سبات شتوي» يفيق من غفلته، ويكتشف وجهه الحقيقي المتسم بالأنانية والتجبر الذي يتنافى جذرياً مع الأفكار اليسارية التي يجترها في كتاباته. أما زوجته، فتتفتح عيناها على حقيقة مرة تتمثل في كون الأعمال الخيرية التي تعنى بها، مجرد غطاء تتستر به عن خواء حياتها الزوجية وموت عواطفها تجاه زوجها. وفي مشهد ختامي ذي نفس شكسبيري، يقف الممثل العجوز في باحة البيت العائلي، وحيداً ومنهكاً، تحت الثلج الذي يهطل بكثافة، وقد استفاق من سبات طويل، ليكتشف الخراب الذي أصاب حياته، وخلفه تتكشف على واجهة الفندق تسميته التي تحمل دلالة رمزية قوية: «فندق عطيل»!

 

المصدر: الأخبار

آخر تعديل على الإثنين, 19 أيار 2014 21:51