بذل الفكر
لا يتوقف الغرام على العشق بين البشر، بل يمكن أن يتحول هذا الغرام إلى حب للأشياء، وحتى للأفكار والآراء من حولنا. وحينما أغرم الشعراء والكتاب بالطبيعة والأماكن، تمكنوا من البوح بمكنونات قلوبهم ،فقدموا لمن حولهم فنوناً أدبية مميزة أمتعت العقول، والأسماع وحثت المخيلة على الاستمتاع.
وبدأ الناس يغرمون بهذه الأوصاف ويستعينون بها في التعبير عن أنفسهم، وهذا ما يعني وقوعهم في حب الكلمة والارتباط بها معنوياً، وما يشير إلى ما بذله الكتاب والأدباء من جهد في سبيل نشر الكلمة والارتقاء بأذواق الناس عبرها.
وحينما نتحدث عن قضية عزوف الناس عن القراءة، فهذا يعني أنهم لم يتوصلوا بعد إلى الوقوع في غرام الكتب، ولم يتمكنوا من التواصل مع الكلمة بالشكل الصحيح، لأن هناك من لا يبذل وقتاً، أو جهداً لتحبيب الناس بالقراءة أو لإمتاعهم بهذه الفضيلة المميزة، وهذا يعبر عن خطأ مستمر يقع فيه اللوم على كل ما يحيط بهم، ولا يشير بأصابع الاتهام نحو شخص أو جهة منفردة.
فالكثير من الآراء تتهم البيئة الأسرية بأنها السبب في عدم توجيه انتباه الطفل إلى الكتاب من خلال تأسيس مكتبة منزلية، وتعويد الطفل على زيارة المكتبات، إضافة إلى إغرائهم بالقراءة من خلال تقليد الأكبر سناً وهم يقرؤون أمامهم.
وأخرى تتهم المدرسة والمعلمين الذين يتعللون بقصر الوقت، مما لايسمح لهم بتعويد الصغار على نشاط قرائي حر.
وغيرها تنظر إلى الإعلام على أنه قد سرق عقول الناس ببريقه بينما فرغ محتواه، فامتلأت النفوس المتلهفة إلى المعرفة وغير المدركة كيفية الحصول عليها بالغث.
وهذا الوزر يتوزع بين الجميع، فهم لا يبذلون جهداً أكثر من اللوم، وهو ما يحول القراءة إلى أزمة شائكة، يبحث الكل عن منبعها فلا يجدون لها منبعاً، والأسوأ أن تأخذ المقارنات فيها مناحي كبرى بحيث تتم المقارنة بين الشعوب دون الالتفات إلى طبيعة المكان، والبيئة فيصعب الحل وتشتبك الآراء في إيجاد حلول لا توجد .
إن القراءة تعبر عن ارتباط معنوي بين القارئ، والكتاب والكلمة والرأي، ويجب ألا تتحول إلى مجرد عادة أو حل لأزمة ينتج عنها نشاط مجتمعي كبير، لكنه مفرغ من الداخل، أو مشروع لإحصاء نتائج ومؤشرات عن عدد القراء ونسبة الزيادة بينهم، بل يجب أن تصبح القراءة مشروعاً مستديماً يجتهد فيه الجميع، إذ يبذلون الوقت والفكر لإيقاع الناس في غرام الكلمة والارتباط بالكتب والتعلق بها.
يحدث هذا الغرام حينما يعثر القراء على من يرشدهم نحو كتب تجذبهم إليها، وهنا يأتي دور كيفية تقديم هذه الكتب للجمهور، وبذل الوقت والمال والفكر بهدف تعريفهم إليها، والتنافس في هذا الأمر لعلمنا بأن الله تعالى لم يجعل التحاسد إلا في أمرين: بذل المال، وبذل العلم.