في تعايش العوالم الحضارية احتياطاً ضد تهمة «الاختزالية» (2)

في تعايش العوالم الحضارية احتياطاً ضد تهمة «الاختزالية» (2)

في المادة السابقة كان الهدف هو التركيز على فكرة أنه على الرغم من هيمنة النمط الحضاري الرأسمالي المأزوم، على قاعدة الاقتصاد السلعي-الاستهلاكي، الذي يشكل في نهاية التحليل قاعدة تدمير كل مستويات الحياة المادية والروحية، ولكن هذا النمط يتعايش مع أنماط حضارية «ما قبل» و «ما بعد» رأسمالية، وإلا ما معنى كونه مهيمناً. وفي هذه المادة سنوسع قليلاً في هذه الأنماط التي تشكّل قاعدة «غير استهلاكية وغير ربحية (بالمعنى الاقتصادي الرأسمالي)» ونواة لبناء المشروع الحضاري النقيض المنقذ للبشرية.

الأنماط «ما قبل رأسمالية»

يعتبر ماركس أن الرأسمالية أخضعت كل القيم والعلاقات الاجتماعية (وضمناً أنماط الإنتاج كالاقتصاد الصغير) التي كانت قبلها، لصالح اقتصاد الربح وضربت كل المرجعيات والقدسيات كالدين والثقافة التقليدية والعائلة وغيرها. ولكن هذا لم يحصل على ذات المستوى في كل العالم، بسبب من خصوصيات تغول وتسارع الليبرالية في كل مجتمع من المجتمعات. مثلاً، لم يحصل تفكيك العائلة على ذات المستوى في كل العالم (لنأخذ مجتمعنا مقارنة بالغرب). وهذه الأنماط ما قبل الرأسمالية ما زالت حاضرة ويشكّل بعضها ضمن النمط الحضاري الرأسمالي مصدراً «للسياحة الروحية»، كونها «شرنقات» من زمن سابق «مفقود» (هناك هيئات دولية ووطنية شكلت لغاية الحفاظ على هذه الأنماط كونها مهددة بالزوال ومعها كل أفرادها). والأمثلة على ذلك كثيرة كالصناعات التقليدية، والتي تأخذ غالباً طابعاً فنياً كالخشبيات والأطعمة والملابس والبناء التقليدي والموسيقى والغناء والآلات الموسيقية التراثية، وغيرها. وهناك أيضاً «بقايا» اجتماعية لا هيئات للحفاظ عليها، ومنها العلاقات والقيم التي تنتمي إلى الأنماط ما قبل الرأسمالية كالتضامن العائلي والقرابي والنمط التشاركي. ولكنها كلها وبمعزل عن الشكل الذي تتخذه تقوم على أساس التصدي لمتطلبات الواقع بشكل إبداعي يحقق غايات المجموعة المعنيّة وحل قضاياها وتجيب عن أسئلتها.
وهذه الأنماط اليوم تشكل «ملجأ» لوحشية العالم المحيط، حيث يلجأ الكثير إليها للبحث عن المعنى المفقود في حياة البرودة الاستهلاكية-السلعية. وهي تشكل نقاط دفاع تأخذ شكل «الردّة» للخلف، ولكنها في الواقع محاولة للإجابة عن أسئلة الفرد النابعة من واقع الرأسمالية وأزمته والاحتمالات المادية والروحية الناتجة عن هذه الأزمة. وهذا كله مؤشر للنكوص والعجز النسبي عن الإجابة. فالإجابات «النكوصية» تنتمي إلى أنماط إنتاج سابقة على الرأسمالية ليس ممكناً لها الحياة وتعويض الإنتاج الرأسمالية لناحية الاتساع والترابط العالمي والتخصص والتكنولوجيا. هذا من البدهيّات حكماً ولا شيء جديداً في ذلك. ولكن ما يهمنا هو عجز الإجابات الروحية «النكوصية» عن تجاوز الواقع الرأسمالية وأسئلته. فالوحدة الكبرى وفراغ المعنى «المطلق» (معنى الحياة وهدفها الكلي وجدواها) في عصر الرأسمالية لا يمكن تجاوزها في أطر اجتماعية وعلاقات حياتية «أضيق» من المعاني التي تحملها الوحدة الكبرى وفراغ المعنى نفسهما، والتي تحمل حاجات «الإنسان الرأسمالي» الكلي، الذي رفعته الرأسمالية إلى المدى العالمي عندما ربطت البشرية في سياق واحد ضمن عملية مترابطة ومتشابكة هي المصير المشترك نفسه. وحتى لا نوسع كثيراً هنا، فإن الطروحات الحضارية «النكوصية» كافية للدفاع المؤقت فقط لأن هذه الأنماط ما قبل الرأسمالية تتعرض للتدمير المباشر اليوم وليس فقط للهيمنة كما في العقود السابقة. ومن هنا تصاعد صوتها اليوم للدفاع عن نفسها كتعبير عن حركة الدفاع عن الحياة. والأمثلة كثيرة من الغرب تحديداً حيث تأخذ الحركة شكل الدفاع عن العائلة في وجه هجمة الهويات الجنسية، وهناك النكوص التراثي الهويّاتي اللغوي للتأكيد على الذات في وجه المسح القيمي الراهن لصالح العدمية المعممة. ولكن هذه الردة والطروحات التراثية- القومية غير كافية لتجاوز الرأسمالية و«منعاً لانهيارات الزمان» (في استعادة لكلمات مهدي عامل في كتابه الأخير: في نقد الفكر اليومي) لأنها بكل بساطة لا تجيب عن أسئلة النمط الحضاري الرأسمالي ومتطلبات أزمته، ولا توفّر ولا تحشد الطاقة العقلية والمادية التي يحتاجها العالم اليوم لحل القضية السياسية والطبيعية والصحية والغذائية والاقتصادية والاجتماعية، وحكماً الروحية، كتركة قذرة للرأسمالية. هذه القضايا تحتاج مشروعاً «اقتحامياً» للتاريخ، لا انكفاء «نكوصياً» لانه يشكل نفسه قاعدة للتفجير فمثلاً هناك اتجاه (ليس بالكبير) في بيلاروسيا اليوم للتكلم بالبيلاروسية والاعتزاز بها، لا الروسية، رداً على الاضطراب في سياق الحرب الأوكرانية. النكوص له مخاطر تخدم إلى حد ما اتجاه العزلة والتفكيك والانكفاء.

الأنماط «ما بعد رأسمالية»

النمط الحضاري الذي تشكّل ضمن الرأسمالية وإجابة نقيضة لها هو الذي قدمته التجارب الثورية والاشتراكية بشكل خاص. فالإجابات التي قدمتها البنى الاجتماعية والاقتصادية والعلاقات والأفكار الاشتراكية كأرقى مستوى وصلته التجارب الثورية عالمياً يحمل الإجابات النقيضة التي تنتمي للتناقض الرأسمالي، ولهذا فهي ليست نكوصية بل تجاوزية تقدمية- مستقبلية. وعلى الرغم من خضوعها للهيمنة خلال مرحلة التراجع الثوري، أو المناورة التي قامت بها بعض التجارب الاشتراكية كالصين مثلاً ضمن التوازن العالمي الذي نشأ في فترة ما قبل وما بعد انهيار الاتحاد السوفييتي تحديداً، ولكن هذه الأنماط لم تختف بالكامل لأنها أساس للمجتمعات التي تشكلت ضمن السياق الذي يمكن تسميته «حضارة صناعة التاريخ». وهذه الأنماط تضم الأحزاب كاشكال تنظيمية إبداعية، وتضم أجهزة الدول وكل مؤسساتها، وتضم المساحات التي افتتحتها هذه التجارب، وفرضت على غيرها من الدول الرأسمالية أن تسمح بها كذلك، كالعلوم والفنون. وهذه الأجسام الاجتماعية لم تختفِ بل تراجع وزنها النسبي أمام وزن الاقتصاد السلعي- الاستهلاكي.
إذاً، على الرغم من الهيمنة، هناك تعايش للحضارة الرأسمالية مع هذا النمط الاشتراكي الحضاري. وهذه الأنماط تقدم إجابات على مستوى التحدي الرأسمالي، ولكنها اليوم يجب أن يتم تعميمها. فالفرد الذي يشترك اليوم في مهام تنتمي إلى النمط الحضاري الاشتراكي له موقف من العالم يختلف عن القاعدة الاستهلاكية التي لها الهيمنة. فالعالِم والفنان والعضو الحزبي أو النقابي أو السياسي يحس بالجدوى والمعنى كونه يحتل مهمة نابعة من الأزمة نفسها، ويكتسب طاقة الاعتراف به من هذه المهمة ومدى التقدم في حلّها. ولكن، هذا ليس حال الغالبية في هذه المجتمعات. لا بل إنه حتى الذي يحتل هكذا موقع إبداعي، محاصر وخاضع للنمط المهيمن السلعي. فالبنية الاجتماعية التي تنتج الأفراد ولكون المهيمن فيها هو الاقتصاد السلعي والذي يحتل الوزن الأكبر في الاقتصاد، هذه البنية تنتج بالغالب أفراداً بعقلية ونفسية وأهداف استهلاكية. وهذا يمكن تلمسه في العزلة النسبية عن الغالبية. وهذه العزلة ليست إلا نتيجة لأن المشروع الاجتماعي العام يشبه الاقتصاد الذي يقوم عليه، أي الاقتصاد السلعي. فالأفراد ضمن الأجهزة والأطر والأفكار التي تنتمي إلى النمط الحضاري النقيض ينتمون إلى اقتصاد «دور الدولة» الذي ما زال قائماً في بعض الدول والذي يحتل الدور الإبداعي في التصدي للمهام المطروحة، بينما الغالبية ينتمون إلى اقتصاد «السوق».

«الما قبل» لن يعوض «الما بعد»

حتى لا نطيل، ما نشهده من محاولات ومشاريع حضارية مطروحة على الطاولة على لسان ممثلي الدول الصاعدة كالصين وروسيا هي محاولة تحميل الغالبية البشرية «الاستهلاكية» المشروع الحضاري لـ«ما قبل الرأسمالية» مطعّماً ببعض عناصر «الما بعد» كالهوية القومية ورموزها، ولكن المطلوب هو تحميلها المشروع الحضاري الذي حملته التجارب «الما بعد رأسمالية». أي توسيع القاعدة المادية التي يحتلها اليوم القسم الإبداعي من المجتمع المعني. بكل بساطة، يجب إشراك الغالبية في العملية السياسية التي تتمحور حول صناعة التاريخ والتصدي للمهام. وهذا لن يحصل بشكل فوقي فقط (أي تأييد القضية المطروحة)، بل ممارسي. فالعضو الحزبي أو العالم اليوم يحمل مهاماً «غير استهلاكية»، وهذا هو نمط حياته اليومي بالمعنى الخلوي، أي الأنشطة التي يقوم بها وتحدد دافعيته وهدف وجدوى هذا النشاط. ولهذا يجب توسيع مساحة الاقتصاد اللا سلعي، وتوسيع القوى التي يمثلها. فلا يمكن لفرد يعيش وجوداً استهلاكياً أن يعيش وجوداً إبداعياً. وهذا التوسيع وحده (وخلق الأجهزة الاجتماعية- وضمناً العلاقات الاجتماعية- التي تمأسسه) قادر على الرد على الأزمة الحضارية الروحية والمادية للرأسمالية ويحشد الطاقات- والأهم أنه يخلقها- الطاقات الضرورية للمواجهة والبناء. فالتراث القومي والشعبي مهم للدفاع المؤقت، ولكن ليس لاستبدال النمط الحضاري الرأسمالي المأزوم. فعصر أزمة المعنى يكون الرد عليه بمشروع يقدم المعنى المتناسب مع المعنى المأزوم والذي هو الجدوى الفردية، وإلا فإن الغالبية ستظل وستكون تحت تهديد العدمية المعممة كقاعدة للبربرية المطلوبة من قبل النمط الحضاري المنهار، وقاعدة دائمة للتفجير. هذه هي المهمة المركزية، ليس في تلك الدول فقط، بل عالمياً. أي مشروع حضاري أممي ضروري تقديمه للحشد أولاً، وللبناء ثانياً.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1125