غوردن تشايلد منتصراً في الشرق
الرأسمالية أكبر عدو للعلم والمعرفة والثقافة، ولكن الحياة أكبر صديق للعلم والمعرفة. إذ تنتصر الأفكار التي حان أوانها، وهي تتسرب بعناد من على بزات السجانين وشقوق الزنازين، وقوانين المنع وسطوة القوى السائدة، ولو بعد حين. وتنتشر مثل الهواء العابر للحواجز وحدود البلدان.
كم من عالم في تاريخ البشرية تعرض لاضطهاد القوى السائدة، ولكنه أصر على آرائه التي كانت ثورية في عصره، وآخرون تنازلوا عنها، بل إن بعض العلماء، مثل: الفلكي جيوردانو برونو قد دفع حياته حرقاً ثمن آرائه، وتعرض آخرون للمحاكمة، مثل: غاليلو، وآخرون أحرقت كتبهم، مثل: ابن رشد، أو تعرضوا لاضطهاد الأقران والسجن والاعتقال لمدة طويلة، مثل: أنطونيو غرامشي، والقائمة تطول.
غوردن تشايلد، هو واحد من العلماء الذين حاول الغرب الرأسمالي هزيمتهم، فاضطهدوه ومنعوا أفكاره، ولكنه انتصر في الشرق، قالباً الهزيمة المؤقتة إلى انتصار بمساعدة الاتحاد السوفييتي.
يعرف في أوساط علم الآثار حول العالم، أن العالم الأسترالي غوردن تشايلد «1892-1957» أول من أدخل الماركسية إلى علم الآثار في الغرب. وتبنى السوفييت أبحاثه في مجال علم الآثار وعصور ما قبل التاريخ والأثنوجرافيا في وقت لاحق.
درس تشايلد التاريخ القديم واللغات اليونانية والفرنسية واللاتينية وعلوم الهندسة والجبر والمثلثات، وأنهى أيضاً دبلوم علم الآثار. وشارك في نشاطات الأحزاب والاتحادات العمالية والاشتراكية والشيوعية في إنكلترا وأستراليا.
واحدة من مآثر تشايلد العلمية والثورية، عمله على اكتشاف وصياغة مفهوم ثورة العصر الحجري الحديث «الثورة النيوليتية» Neolithic Revolution أو الثورة الحضرية Urban Revolution، وهو المصطلح الذي أطلقه تشايلد على مجموعة التغييرات والتحولات التي حدثت في تاريخ البشرية، منذ تحول المجموعات البشرية من الصيد واللقط إلى الزراعة والتدجين وتطور إنتاج الغذاء، وتقسيم العمل، وكذلك تطور المجتمع إثر هذه التحولات، حيث ازداد عدد السكان بشكل كبير وانتشرت القرى، وحصلت تغييرات جوهرية في العمل والعادات. التغييرات التي أدت في النهاية إلى تشكيل المدن «ثورة المدن المشاعية» وتطور الكتابة وازدهار الزراعة والحرفة والتجارة والعلوم، ومن ثم الدولة والسلالات الحاكمة والملوك. وتعتمد غالبية مناهج كليات ومعاهد الآثار على هذه المفاهيم في تعليم الطلاب حول العالم حتى اليوم.
صاغ غوردن تشايلد مفاهيم عديدة حول التغييرات والثورات التي شكلت المجتمعات القديمة. ونشر أبحاثه في كتبه، وأكثرها في مجال علم الآثار وعصور ما قبل التاريخ. بالإضافة إلى ذلك، فإن الأفكار الماركسية والاشتراكية التي اعتمد عليها تشايلد، تظهر بوضوح في كتبه وأبحاثه.
من مآثر تشايلد العلمية أيضاً، اعتماده على ما توصل إليه العالم الأمريكي لويس هنري مورغان في كتابه «المجتمع القديم، أو أبحاث في خطوط تقدم البشرية من الوحشية عبر البربرية إلى المدنية»، وعلى ما أكد عليه فريدريك إنجلز في كتابه «أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة» حول مراحل وأطوار الحضارة ما قبل التاريخ. وأدخل الأطوار الثلاثة «الوحشية والبربرية والمدنية» في أبحاثه حول علم الآثار وعصور ما قبل التاريخ. فالمكتشفات الأثرية التي تخضع للتحقيب الأثري: العصر الحجري القديم والوسيط والحديث. صارت تخضع مع تشايلد لأطوار الحضارة ما قبل التاريخ، في منهج جديد دخل علم الآثار شيئاً فشيئاً.
تنقل تشايلد بين جامعات أوروبا وأمريكا، وكانت القاعة التي يلقي فيها محاضراته تمتلئ بالطلاب والمستمعين والصحفيين، حتى جاءت سنوات «المكارثية» في الولايات المتحدة، التي أعلنت حرباً كبيرة ضد العلم والثقافة والفن والسينما والأدب تحت ستار محاربة الشيوعية. وهنا نال غوردن تشايلد نصيبه من أعمال القمع. حيث منعت كتبه من النشر، وحذفت أبحاثه من مناهج الجامعات، رغم المعارضة الشديدة للأوساط الجامعية والأكاديمية والطلابية. وفي الجامعات الأوروبية، مثل: جامعة لندن التي كانت تنشر أبحاثه في الماضي، فقد وضعت أبحاثه على الرف في المستودعات والمكتبات، وخُفف الحديث عنها في الأوساط الأكاديمية إلى درجة كبيرة خوفاً من قمع السلطات.
توفي تشايلد في العام 1958، أي بعد سنوات قليلة من جرائم المكارثية بحقّ العلم والمعرفة، بينما واصلت أفكاره الانتشار لسببين:
السبب الأول: تبني الاتحاد السوفييتي لاكتشافات غوردن تشايلد العلمية ونشرها في معاهد وجامعات التاريخ والآثار والأثنوجرافيا.
السبب الثاني: لم تستجب جميع الجامعات الأوروبية لسياسة العداء للشيوعية وكانت تدرس أفكار غوردن تشايلد في مناهجها.
ومن أهم أعمال غوردن تشايلد هي الكتب والأبحاث التالية: الثورة الحضرية. التطور الاجتماعي. التقدم وعلم الآثار. قصة الأدوات. ضوء جديد على الشرق الأقدم: مقدمة شرقية لعصر ما قبل التاريخ الأوروبي. الإنسان صنع نفسه. الشرق الأقدم. فجر الحضارة الأوروبية. الآريون: دراسة حول الأصول الهندو أوروبية. كيف يحكم العمل: دراسة عن تمثل العمال في أستراليا. حضارات الغابات في شمال أوروبا: دراسة عن التطور والانتشار. ماذا حدث في التاريخ. المجتمع والمعرفة: نمو التقاليد البشرية. مقدمة قصيرة إلى علم الآثار «وهو الكتاب الذي يدرس حتى اليوم لطلاب السنة الأولى في علم الآثار حول العالم». المجتمع الأوروبي ما قبل التاريخ. هجرات عصور ما قبل التاريخ.
عند دراسته لعلم الآثار في جامعة أكسفورد، نشط في صفوف الحركة الاشتراكية، وشن حملة ضد الحرب العالمية الأولى، واعتبرها صراعاً خاضه الإمبرياليون المتنافسون على حساب الطبقة العاملة في أوروبا. بعد عودته إلى أستراليا عام 1917، مُنع من العمل في الأوساط الأكاديمية بسبب نشاطه الاشتراكي. بدلاً من ذلك، عمل في حزب العمال كسكرتير خاص للسياسي جون ستوري. ومع تزايد انتقاده لحزب العمال، كتب تحليلاً انتقادياً لسياساتهم وانضم إلى منظمة العمال الراديكالية: العمال الصناعيين في العالم.
شارك مع ستيوارت بيجوت وغراهام كلارك في تأسيس جمعية ما قبل التاريخ في عام 1934، ليصبح أول رئيس لها. بالإضافة إلى بقائه اشتراكياً ملتزماً. واستخدم الأفكار الماركسية، مثل: المادية التاريخية كإطار تفسيري للبيانات الأثرية. رافضاً المناهج الثقافية والتاريخية التقليدية.
أصبح متعاطفاً مع الاتحاد السوفييتي، وزار البلاد في عدة مناسبات، وأدت معتقداته إلى منعه من دخول الولايات المتحدة، على الرغم من تلقيه دعوات متكررة لإلقاء المحاضرات هناك. ورغم هذا المنع في الغرب، انتصرت أفكار غوردن تشايلد في الشرق.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1122