العيون المبتسمة في وجه الموت
لم يكن ينقصنا، نحن السوريين الذين عانينا ما عانيناه خلال السنوات القليلة الماضية من أهوال أتعبتنا وأنهكت نفوسنا، إلا كارثة بحجم زلزال. مرت علينا بضعة أيام وكأنها قرون ومازال الجرح الكبير بحجم البلاد ينزف.
شعب تليق به الحياة
نحب بلادنا ونحب أبطالها. ناسها البسطاء الذين استيقظوا على هول الكارثة، وهبوا للقيام بما يجب على الإنسان فعله في أوقات مروعة كهذه، كسروا الجدران الوهمية التي أحدثتها وفرضتها ظروف الحرب. لم ينتظروا أحداً ليخبرهم بما يجب أن يفعلوا. بادروا بالفعل الملموس وبما لديهم من إمكانات وأكدوا أنهم قادرين على تحمل المسؤولية. بينما تحولت بعض صفحات التواصل الاجتماعي إلى ما يشبه «غرف عمليات صغيرة» للتشبيك والتواصل مع الأطراف التي ترغب بمد يد العون، سواء المباشرة منها أو تقديم المساعدات للمتضررين.
كلمة السر
كشف الزلزال، الكارثة الطبيعية، عن عمق الكارثة التي تعيشها البشرية اليوم، وعمق المأساة التي يعيشها السوريون على وجه الخصوص بعد سنوات موجعة من الحرب. وكان الفساد هو كلمة السر في هذه الحالة.
يؤكد كثيرون أن الفساد ظاهرة كونية، وهم محقون في ذلك، تتجلى أوضح أشكالها في التوزيع غير العادل للثروة، وما ينتج عنه بكل تشعباته المعقدة والمتنوعة الأخرى في ظل نظام رأسمالي عالمي وصل إلى أقصى درجات التوحش. لكن البعض يحاول استخدام هذه الحقيقة من أجل تبرير الفساد المحلي، متغاضين عن حقيقة أن هذا الأخير مرتبط بالفساد العالمي وهو في نهاية المطاف جزء منه.
يكشف البؤس المكدس في تفاصيل الحياة اليومية للسوريين، قبل الزلزال وبعده، حجم وعمق الفساد المستمر منذ عقود والذي تصاعد وتضاعف خلال الأزمة، وما زال يفعل فعله في إنتاج وتعزيز كم هائل من المشكلات التي تحتاج الحل. يتوافق الفساد المحلي مع العقوبات الغربية، والأمريكية خصوصاً، وتسببها بأزمات الوقود والغذاء والدواء... إلخ. وغالباً ما يتخذ هذه العقوبات شماعة يلقي عليها اللوم فيما آلت إليه حال السوريين، وهو حقٌ يراد به باطل.
من ناحية أخرى كشفت الكارثة ترهل وعجز جهاز الدولة، وعدم قدرته على التدخل لحل أية مشكلة من مشكلات الناس والمجتمع. تكمن المعضلة الأساسية هنا بضعف الإرادة السياسية والرغبة في معالجة المشكلات.
وحيث لم يعد الكلام كافياً ولم تعد تجدي الوعود، فاحتياجات الناس الكثيرة والمتعدّدة، وحالة الفقر والعوز التي وصلت إلى أعلى مستوياتها، تُظهر ضرورة إيجاد حلول سريعة لانتشال هؤلاء من واقعهم المأساوي.
إن تركيز الجهود على العمل الإغاثي ضروري في الوضع الراهن، ولكنه غير كاف في المستقبل البعيد؛ إذ لا يرغب غالبية السوريين الذين لم يلتقطوا أنفاسهم منذ أعوام أن يتحولوا إلى العيش على المساعدات والإعانات بصورة مستمرّة. بينما المطلوب أن يمسكوا بزمام حياتهم بأيديهم ليتمكنوا من مواصلة حياتهم، والخروج من الأزمة.
الاصطفاف الجديد
أظهر التعاطي الشعبي المباشر مع الحدث، أن المجتمع السوري وقواه الحية مازالت موجودة وأنها مازالت فاعلة، فمنذ اللحظات الأولى بدأت ملامح اصطفاف جديد بالظهور، مختلف عن تلك الاصطفافات الوهمية السابقة والمصنعة بهدف تفكيك بنية المجتمع وتذرير قواه الحية. ظهر من خلال كسر حاجز الخوف، وكسر أوهام عودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل الأزمة.
كم هائل من المساعدات والمبادرات الشخصية، قام بها آلاف السوريين من أقصى الشمال إلى أقصى جنوب البلاد، مواقف إنسانية وتعاطف كبير، عبروا عنه بروح الجماعة، في محاولة لتخفيف العبء وتحمل المحنة.
سماؤنا واحدة ونتنفس هواء واحداً، استجاب كثيرون لنداء الكوارث هذا، شعوبٌ ودول كسرت الحصار والحواجز التي وضعتها منظومة عالمية للفساد ومدت يد العون للضحايا، ومازالت.
تقاسمت وسائل الإعلام مهمة نقل الحدث كل حسب أجندته الخاصة، وحاول العديد منها تقسيم الناس، عبر إحصائيات منفصلة، حسب المناطق. حملت التقارير الإعلامية المختلفة أرقاماً مخيفة، عن واقع مؤلم ووضع كارثي تعيشه مختلف مناطق البلاد: «الناس– هنا- وضعها مأساوي ومحرومون من أية مقومات للحياة بسبب الحرب، وها قد أتى الزلزال على ما تبقى منها.. وزاد الطين بلة نزوح الآلاف وتجمعهم في تلك المناطق التي ضربها الزلزال، إن وجود هذا العدد من الناس في تلك المنطقة المحدودة بأبنية متصدعة بفعل القصف والحرب، جعل وقع الكارثة أكبر». ينتهي التقرير هنا. ويكاد الكلام يكون مكرراً خلال الحديث عن أغلب المناطق المتضررة بشكل مباشر.
المأساة لا تُختزل في الأرقام، لكن ضعف عمليات الإنقاذ وبدائيتها تسبب في ارتفاع كبير لأرقام الضحايا في الأيام اللاحقة، وحتى هذه اللحظة.
حال السوريين في مناطق أخرى ليس أفضل، صحيح أنه لا خسائر بشرية تسببت بها الارتدادات، إذ اقتصرت الأضرار على انهيار وتشققات في بعض المباني، إضافة إلى حالة من الخوف والذعر ألمت بالناس، شعور بالعجز لا يمكن وصفه أمام هول ما حدث تلتها حالة من الألم والغضب أمام التوحش في سلوك ممثلي الفساد، وتجردهم من إنسانيتهم، غير آبهين سوى بمصالحهم الخاصة الضيقة، وزيادة أرباحهم على حساب آهات الناس وجروحهم النازفة.
بيّن التكاتف الاجتماعي الذي أظهره السوريون في البلاد كلها، وفي الخارج، حقيقة أنهم شعب واحد أينما تواجد.
الصورة وما تختزله
تختزل الصورة بداخلها عادة تفاصيل بعض ما يحدث في الواقع، لتقدمه لآخرين لم يشهدوا الحدث بشكل مباشر. لخصت بعض الصور القادمة من قلب الحدث آلام ضحايا الزلزال، لكن الواقع هذه المرة كان صادماً ومأسوياً لدرجة لم يتخيلها أحد. نالت صور الأطفال بفجائعيتها حصة كبيرة من اهتمام الناس وتعاطفهم. وتركت الفيديوهات المصورة أثرها عميقاً في النفوس.
رجل، يجلس ساكناً وسط الاضطرابات، غير مبال بالمطر والبرد. يمسك بيد ممتدة من بين الأنقاض. ثم، يتضح المشهد: أنه أب يمسك بيد طفلته الميتة دون أن يتركها، وسط الأنقاض والدمار.
«بابا هون».. يصرخ أحد المنقذين ليطمئن طفلة تحت الأنقاض
طفل تتناهبه الأيدي بعد خروجه سالماً، يوزع ابتسامة عريضة لمنقذيه. ثمة طفلة أخرى تحتضن أخاها تحت الأنقاض لحمايته، تتحدث مع المنقذين بعيون مبتسمة. صورة هذه الأخيرة تحولت إلى أيقونة في الإعلام وعلى وسائل التواصل الاجتماعي.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1110