«سفاري» رحلة محظورة عبر التاريخ
هند دليقان هند دليقان

«سفاري» رحلة محظورة عبر التاريخ

إذا ما سألت أحداً اليوم عن الصورة التي تخطر بباله عندما تُذكر أمامه كلمة «الغرب» أو «أوروبا» فإنه غالباً سيجيبك بأنها دول متطورة ومتحضّرة، تراعي حقوق الإنسان وتحترمه، ولكن للبو ناصر الطفار -وهو مغنّي راب لبناني- رأي آخر في هذا الأمر، اختصره وكثّفه بأربع دقائق من أغنية راب بعنوان «سفاري».

تأخذنا سفاري في رحلة عبر التاريخ لترينا فظائع الاستعمار الغربي، وجرائمه الشنيعة بحقّ الشعوب الفقيرة. يبدأ الفيديو بعرض صورة لأوتا بينجا، وهو شابّ إفريقي له قصة مأساوية مع الاحتلال البلجيكي بقيادة ليوبولد الثاني الذي سيطر على حوض الكونغو في إفريقيا خلال نهايات القرن التاسع عشر واستمر حتى بدايات القرن العشرين. الصورة في الفيديو تظهر أوتا بينجا وهو يحمل قرداً بإحدى يديه، حيث قام البلجيك بإبادة قريته وقتل عائلته وأخذته أسيراً ووضعته في قفص ضمن حديقة حيوان بشرية مع حيوانات أخرى كالقرود والشمبانزي في محاولة لإثبات أفكار الرجل الأبيض المتفوّق بأنّ هؤلاء الناس ذوي البشرة السوداء يشبهون الحيوانات ويستحقون ما يفعل بهم.
تبدأ الأغنية بالحديث عن «أنكل جاك» في إشارة إلى جاك غرين أحد الشخصيات في مسلسل أمريكي تدور قصته حول مهمة إنقاذ العالم من خطر داهم، يكون فيه جاك هو البطل. هذه البطولة والإنسانية الأمريكية التي لا تُرى سوى في الأفلام قد دُحضت بشكلٍ تام منذ زمن طويل، حيث يأتي في الأغنية ذكر أندرو جاكسون وهو رئيس الولايات المتحدة الأمريكية في ثلاثينات القرن التاسع عشر الذي سمح بتهجير السكان الأصليين باستخدام العنف، وقتل العديد منهم أثناء القيام بذلك بأبشع الطرق الممكنة (لما كان يقصّ أنوف، يسلخ جلد، يعطي ألوف ليلّي بجبلو فروة راس طفل هندي).
في المحطة الثانية من الأغنية تأخذنا سفاري إلى فرنسا، مستهزئة بشعارات «الحرية والأخوة والمساواة» التي بقي الفرنسيون يتغنّون بها بعد الثورة الفرنسية رغم مجازرهم بحقّ الشعوب الأخرى. يقف البو ناصر تحديداً عند حادثة «الجربوع الأزرق» وهي تجربة نووية قامت بها فرنسا في صحراء منطقة رقّان في الجزائر عام 1960 حيث أقدمت على رمي قنبلة بقوة 70 كيلو طن أي ثلاثة أضعاف قنبلة هيروشيما! (وفي فيديو الأغنية تصريح لأحد المسؤولين الفرنسيين عن نجاح هذه التجربة رغم أنّ سكان تلك المنطقة لا يزالون يعانون حتى اللحظة من آثارها). لا تروى حوادث كهذه في التاريخ الذي كُتب وفق هوى المستعمرين، لا يُحكى مثلاً عن مجازر ناميبيا التي قام بها الألمان في بدايات القرن العشرين، حيث أبيد شعب كامل عن بكرة أبيه في تلك المنطقة على يد لوثار فان تروثا، والذي يأتي ذكره في الأغنية إلى جانب ليوبولد الثاني الملك البلجيكي بشكل هازئ: «نحن بغال بدنا يسوسنا أحفاد ليوبولد الثاني ولوثار فان تروثا».
تتابع سفاري الرحلة وصولاً إلى مذبحة رواجيد 1947 والتي قام بها الهولنديون بحق سكان قرية رواجيد في إندونيسيا، ثم تذهب لتحدثنا عن المجازر التي ارتكبت بحق أطفال السكان الأصليين في كندا، حيث كان الأطفال يؤخذون من أهاليهم ويوضعون في مدارس خاصّة لتعليمهم ثقافة المستعمر ولغته، ثم ما يلبث أن يقوم هذا الأخير بارتكاب أفظع الجرائم بحقّهم من اغتصاب وقتل وتعذيب نفسّي وجسدي. أجل هذا هو العالم المتحضّر: «عالم أوّل ومتمدّن شوف شو ناعم دسّ».
وتنتهي الأغنية بمقطع من أغنية «jump jim crow» لمغني يدعى توماس دارتموث صدرت في العام 1828 والتي يظهر بها المغني طالياً وجهه باللون الأسود مؤدياً رقصات مضحكة في محاولة لتقليد رجلٍ أسود البشرة ومعاق يدعى جيم كرو، فيما يدلّ على تطبيع البنية الفوقية لسكّان الدول المستعمِرة مع فكرة العنصرية ضد سود البشرية، وإظهار ذلك في الفن الخاص بهم.
تكثّف الأغنية بأربع دقائق فقط تاريخاً كاملاً من الاستعمار الاستيطاني والعنصري، دون أن تخلو من إشاراتٍ واضحة لدور رأس المال في افتعال الأزمات وتركيب حكومات في المناطق المستعمَرة وفقاً لهوى المستعمِر (الاستعمار الجديد)، ودون أن تخلو أيضاً من التذكير بأن سياسة تفوّق الرجل الأبيض مازالت تفعل فعلها في التعامل مع القضايا السياسية حتى في التاريخ الحديث، مشيرةً إلى التعاطي مع المسألة الأوكرانية بشكلٍ ساخر: «مش أوكران نحن بربر مناكل بالإيد».
المثير في الأغنية ليس فقط قدرتها على تكثيف واختصار التاريخ بأقلّ عدد ممكن من الكلمات فحسب (وهذا ما يميّز فن الراب عموماً) بل تطرّقها لقضية العنصرية ضد السود والتي كانت من أولى الدوافع لبروز فن الراب بين الأفارقة الأمريكان الذين كانوا يتعرضون لاضطهاد وقمع ويعيشون حياة مذلّة وفقيرة، مع فارق أنّ أغنية «سفاري» وضعت هذا القمع والعنصرية في سياقهما التاريخي.
يبرز في الأغنية أيضاً صراعٌ واضح بين «نحن» و«هم»، نحن المضطَهدون، الفقراء، أبناء الأراضي المستعمرة، وهم المضطهِدين، المستعمرين، أصحاب السلطة ورؤوس الأموال الكبرى، وفي إطارٍ هزلي وساخر غاضب يصوّر البوناصر هؤلاء ال«هم» على أنّهم مكلّفون «بتطويرنا» ليعود بعد ثانية واحدة فقط ليذكّر كيف تمّ «تطويرنا» حقيقةً: «الله مكلفه يطوّرنا يشلّحنا يصوّرنا بالحكمة ينوّرلنا خطانا، بالجدري يطعّمنا، بمغارة يقصفنا متل أولاد رياح متل قانا».
وكما جرت العادة بتعاطي منصّات التواصل الاجتماعي مع كلّ ما يفضح عهرها وانحيازها، وكما قامت سابقاً بتقييد المحتوى الفلسطيني لأنه لا يتوافق مع هوى أصحاب رؤوس الأموال المؤيدين للصهيونية العالمية والمتحكمين بوسائل الإعلام وبهذه المنصات، فقد نالت «سفاري» حصتها من التقييد أيضاً، وعلى ما يبدو كان ذلك موجوداً مسبقاً في ذهن منتجي الأغنية، إذ يبدأ الفيديو بعبارة «محتوى حساس sensitive content» التي تقوم هذه المنصّات بوضعها عند نشر فيديو يحتوي عنفاً ما. وفيما هو واضح فقد كان المحتوى حسّاساً بالفعل لأصحاب مواقع التواصل الاجتماعي يوتيوب وإنستاغرام. حيث قام موقع انستغرام بحذف جميع منشورات الأغنية من الصفحة الرسمية للمغنّي، وقام يوتيوب بتقييد الوصول إليها عبر الطلب من المستخدم تسجيل الدخول وتأكيد العمر قبل المباشرة بمشاهدة الفيديو، معتبراً الفيديو «عنيفاً ومسيئاً للبعض» ليردّ البوناصر على ذلك بالقول: «قمعهن مش مشكلة بالعكس، رضاهن عنّا هو المشكلة المخيفة. هي مش موسيقا ترضي الأخ الأكبر».

معلومات إضافية

العدد رقم:
1094