الكتابة الإبداعية في العصر الراهن
حسين خضّور حسين خضّور

الكتابة الإبداعية في العصر الراهن

نعتقد أن فعل الكتابة الإبداعية في أبسط أشكاله عبارة عن نص- بغض النظر عن حجمه الفعلي- يُنسج ضمن سياقٍ وبشكلٍ واعٍ أو عفوي، واسمحوا لنا ضمن هذه المادة أن نعالج ونطرح أسئلة تتعلق بمفهوم السياق. لنفرض جدلاً أننا بدأنا في العمل على نص إبداعي يلامس العصر الراهن، ربما سنعطي الأولوية في عملية التفكير إلى اللحظة الراهنة، وبالتالي يُنظَر بين الحين والآخر إلى السياق التاريخي، وهذه المادة الصحفية القصيرة تتركز بشكل محوري حول هذه النظرة الخاطفة إلى السياق.

حسين خضّور
من المعلوم شعبياً، وعلمياً أن هناك لبّاً، أو مضموناً لأي شيء، لكن في بعض الأحيان تختلط الأمور عند التفكير في علاقة الشكل بمضمونه، ليبدو لنا أن الشكل منفصل عن المضمون، بمعنى أن اللب داخل الشيء وعلينا استخراجه، أو الحفر لنصل إليه، ولتوضيح المسألة وفق المنهج الماركسي نقول: إن الشكل تعبير داخلي لا ينفصل عن المضمون، وهذا التفسير يمكن للطبيعة أن تبسطه لنا إذا تأملنا تقطيع البصل الذي ينتهي دون الوصول إلى أي لب، بالتالي سيكشف لنا كيف أن الشكل لا ينفصل عن المضمون، لأنه تعبير داخلي عنه. طبعاً تجدر الإشارة هنا إلى أن مثال تقطيع البصل كان سائداً بأشكال مختلفة في الكثير من الكتابات الإبداعية في القرن التاسع عشر، والكاتب الروسي دوستويفسكي تطرق إلى استخدم الاستعارة الأدبية حول البصل، ليوصف حالة شخصية اشتد اضطرابها وهي تبحث عن لب الحياة، ولم تجده بعد.
بناءً على ذلك يمكن القول إن أي نص أدبي، مسرحي، سينمائي... إلخ، ما هو إلا نص جاء كتعبير داخلي عن سياق تاريخ، أي إنه شكل لا ينفصل، ويعبر داخلياً عن المضمون.
ربما نسأل أنفسنا قبل الدخول في تفسيرات حول طبيعة العصر الذي نعيشه: أين يمكننا التقاط نقطة علام مفصلية في تكون عصرنا الراهن؟
نقترح لتخفيف تدفق الكم الهائل من التفاصيل، بالعودة إلى خريطة العالم بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية سنة 1945، في حينه كان أمراً مفروغاً منه القولُ أن العالم دخل عصراً جديداً يحمل في طياته ملامح أساسية، لكنه لم يكن واضحاً بعد، ومنذ تلك اللحظة التاريخية، وإلى الآن يجري طرح تفسيرات عدة حول نقطة العلام المفصلية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، وقد يخطر في أذهاننا أن أول نقطة علّام يمكن الوقوف عندها هي الحرب الباردة ما بين قطبين، الرأسمالية الاحتكارية، والاشتراكية الشيوعية، ولنقل إننا اتفقنا مع هذا الطرح، بالتالي معنى ذلك أننا أيضاً اتفقنا على أنّ تفكك الاتحاد السوفيتي سنة 1991، الذي يعد الرأس الكبير للشيوعية، كان إيذاناً بانتهاء عصر صراع القطبين، فدخلنا في عصر جديد.
لكن ماذا سيحدث إذا طرحنا تفسيراً ربما يكون مختلفاً حول نقطة العلام الأساسية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية؟ هل سيكشف لنا أنه لم ينته مضمون ذاك العصر الذي عفا عليه الزمان كما يقال؟ أو هل هذا السؤال سيفيدنا في كتابة نصنا الإبداعي؟
نعتقد أن الإجابة هنا لها أهمية بالغة، كونها تعطي الإمكانية لكشف علاقة أي نص معاصر مع السياق التاريخي المعبر عنه.
قد يذهب البعض للقول إن استخدام الولايات المتحدة للقنبلتين الذريتين على اليابان، ومن ثم إعلان انتهاء الحرب، هو نقطة العلام المفصلية، أو ربما نتوقف عند الثورة الكوبية بقيادة فيديل كاسترو وأرنستو تشي غيفارا، على أنها هي مربط الفرس. بكل تأكيد نحن لا نقلل من قيمة كل ما ذكر أعلاه، أو لم يذكر، لكنّ هناك مصطلحاً أطلق عليه وعد بلفور قبل حوالي السنة من انتهاء الحرب العالمية الأولى في عام 1918، وبعد سنتين من انتهاء الحرب العالمية الثانية في عام 1948، نُكِبَ العالم في حينه بنبأ احتلال الصهيونية للأراضي الفلسطينية، وإعلانهم قيام دولة «أطلقوا عليها اسم إسرائيل».
لماذا نعتقد أن احتلال الصهيونية لفلسطين هي نقطة العلام المفصلية في عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية؟
الإجابة بسيطة كالماء، وحارة كالجمرة، والسبب أن احتلال الصهيونية لفلسطين هو أطول احتلال في العالم ضمن العصر الراهن، معنى ذلك أن استمرار وجود هذا الكيان يدل على أننا لا نزال نعيش ضمن عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، رغم انهيار جدار برلين، وتفكك الاتحاد السوفيتي، وغزو الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الحلفاء للعراق وأفغانستان، وكل الحروب والنزاعات التي أنهكت حال المجتمعات البشرية، والقائمة تطول إلى ما لا نهاية من أزمات وقضايا عايشها العالم في العقود الأخيرة.
بناءً على ذلك لم تكن مصادفة أن ينسج الكاتب السوري سعد الله ونوس مجموعة كبيرة من أعماله المسرحية ضمن سياق تاريخي لم تطوَ صفحته بعد.
فإن القضية الفلسطينية ليست فقط قضية حق شعب بالعيش مستقل في أراضيه، وإنما هي قضية كثفت في شكلها التعبير عن مضمون عصر ما بعد الحرب العالمية الثانية، لذلك نتعقد أن أي فعل إبداعي كتابي يبتعد- بقصد أو بغير قصد- عن التفكير بقضية العصر الراهن، أي بالمفصل الأساسي ضمن السياق التاريخي المعاصر، سيتحول النص الإبداعي إلى مجرد مظهر خارجي يعبر عن العصر الراهن، ولا نقصد بهذا الشأن أن أية كتابة إبداعية ستتطرق إلى تفاصيل، أو الأحداث المأساوية التي عاشها الشعب الفلسطيني، وإنما المقصود التوقف عند هذه النقطة المفصلية في تشعباتها الكثيرة من سياق تاريخي معاصر، للولوج أكثر إلى عمق علاقة ما نعانيه من آلام، وتطلعات كبيرة لانتهاء عصر أقصى درجات الاحتكارية في تاريخ البشرية.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1087
آخر تعديل على الإثنين, 12 أيلول/سبتمبر 2022 00:24