الأيديولوجيا في مرحلة التوازن والانتقال
إن التحولات التي تطال الخطاب والعقل المهيمن تجعل من المغري البحث في الأيديولوجيا الخاصة بهذ المرحلة. فالأيديولوجيا بجوانبها المختلفة، بكونها تمثل انعكاساً موضوعيا للعالم (وضمناً للفرد حامل هذا الانعكاس) أو بكونها ممارسة على أرضية هذا الانعكاس (ترتبط بموقع الطبقة في الصراع)، ترتبط بالواقع الموضوعي وتحولاته. ولكن لكل مرحلة تاريخية خصائصها التي تحكم العلاقة بين الأيديولوجيا والواقع (الصراع الطبقي وشروطه الملموسة) وتعطي للأيديولوجيا ملامحها التاريخية. فما هي هذه الملامح اليوم (والتي تحتاج لبحث معمق من أجل تتبّع خط سير العقل- وحكماً الشخصية التاريخية وضمناً الإنسان الجديد- بعيداً عن الحدث بذاته) على ضوء التوازن العالمي الذي يحكم مرحلة الإنتقال التجاوزي للإمبريالية (الرأسمالية بالضرورة)؟
التوزان وتسارع المرحلة
يمكن تكثيف الصراع الطبقي الذي لا يظهر صافياً بل من خلال الصراع العالمي بين الدول وضمنها، وبسبب من عمق الأزمة وحدتها، بأنه أولاً، سريع نسبياً مقارنة بالمراحل التاريخية السابقة. إن تاريخ التشكيلات الاقتصادية (تشكيلات الانقسام الطبقي)، وتمرحل كل تشكيلة منها، يُظهر بأن التشكيلة الاحدث تكون أقصر عمراً تاريخياً من سابقاتها، وبأن مرحلة الأزمة في كل تشكيلة تكون أسرع من مراحل ثباتها. وهذه المرحلة من عمر التشكيلة الرأسمالية هي لربما الأسرع في التاريخ. أما الخاص الآخر بهذه المرحلة أنها تشهد توازن قوى ناضج وهو لا يزال في مرحلة ازدياد وزن القوى التقدمية فيه في سياق الانتقال من الرأسمالية والبنية الطبقية بشكل عام. أي إن الانتقال لا يحصل اليوم نحو مجتمع طبقي آخر، بل نحو نفي الطبقات نفسها. إذاً، التسارع وطبيعة الانتقال هما من أهم خاص هذه المرحلة.
الأيديولوجيا بين التسارع وطبيعة الانتقال
إن تأخّر الأيديولوجيا عن الواقع هو قانون موضوعي، ولكن هذا التأخّر هو نسبي. فاذا اعتبرنا أن الأيديولوجيا هي بالنهاية في عقول الأفراد، ولا تخرج عن قوانين النشاط الإنساني المحكوم بالحاجات والأهداف والشروط الخاصة التي يمارس فيها هؤلاء البشر نشاطهم لتحقيق هذه الحاجات والأهداف، إذاً فإن هذه الشروط وهذه الحاجات والأهداف تتدخّل في تحديد المسافة التي تفصل الانعكاس العقلي عن الواقع المعكوس. فنظرية النشاط التاريخي التي ساهم في تأسيسها وتطويرها الكثيرون بدءا من السوفييت ولاحقاً العديد من العلماء حول العالم، يقولون بما يسمونه حلقات النشاط. أي الحلقة التي تربط الحاجة والفعل بالهدف. وهذه الحلقة تتسع وتضيق، وتتعقد وتتشعب وتتبسط، طبقاً للشروط التي يتحقق فيها النشاط. وإذا ربطنا قضية حلقة الانعكاس مع قانون «الوعي على أساس رفض الواقع» الذي شدد عليه الباحث السوفييتي ليف فيغوتسكي. هذا القانون يقول بأن الوعي يتحقق لما يحصل رفض لموضوعه من قبل الواقع. هذا أيضاً هو أحد تجليات مفهوم التناقض في مجال الوعي. إن تفاعل قانوني الحلقة مع قانون رفض الواقع من أجل تحقق الوعي يفعلان فعلهما في تحديد ملامح الانعكاس. فالرفض الشامل الذي يقوم به الواقع اليوم تجاه الوجود الإنساني ككل، أي في وضعه الإنسان أمام مصيره الفردي والبشري (كنوع) من جهة، وتعطل بنية النشاط من جهة أخرى، يضيقان حلقة النشاط فتقصر المسافة بين الحاجة- الفعل- الهدف، مما يرفع من سرعة الوعي على التقاط الإشكالية الموضوعية، ومن جهة أخرى، كون الرفض يطال الوجود بالمعنى الشامل، فإن الواقع ككل تطاله عملية الانعكاس، أي إن الوعي وضمن هذا الانعكاس الشامل يقوم بتجريد الزمان والمكان على المستوى العالمي.
هذا من شأنه أن يجعل عملية الانعكاس ونتيجتها أكثر قربا من الحركة الموضوعية، ومن شأنه أيضاً عن يعقلن الوعي أكثر، ويجعله أكثر موضوعية. أليس الميدان السياسي تاريخياً (وضمناً النشاط في مجال القيادة العسكرية) في كونه أكثر ميدان يلتصق به الوعي بالواقع هو دليل على قدرة عملية الانعكاس أن تكون سريعة ومرنة وقادرة على التجريد السريع للأحداث؟ إن ميدان السياسة هو المجال الذي ينحكم به الوعي بالواقع أكثر من أي ميدان آخر لكونه محكوماً بضرورات التشامل والتجريد. وإذا اعتبرنا أن الأيديولوجيا على مستوى العالم تسير كانت، واليوم أكثر من أي وقت مضى، باتجاه التسييس (بغض النظر عن القاعدة الفكرية التي يحصل فيها هذا التسييس)، فإن الوعي على مستوى العالم يقترب أكثر من أي وقت مضى باتجاه قدرته على التفاعل السريع مع الواقع، والقدرة بل الحاجة على أن يكون أكثر موضوعية.
بعض خلاصات عامة
هذا الالتصاق، أو لنقل، نضوج الشروط الموضوعية لالتصاق الوعي بالواقع، بغض النظر عن الاتجاه الذي قد يسلكه الوعي (كيف يترجم الواقع)، إضافة إلى الحاجة إلى العقلنة نتيجة انسداد الأفق، يجعلان الوعي وتحديداً لدى القوى التي لم تدخل بعد فضاء البربرية (الذي هو الشكل الآخر من الانسداد)، يجعلانه أرضية لولادة اتجاه سياسي عالمي يمكن أن يتكامل بحركة عالمية يجب العمل على تأطيرها بما يتخطى الأطر الحالية التي أصبح أغلبها خارج التاريخ. ومن جهة أخرى إنه قاعدة لولادة شخصية إنسانية جديدة، أي إنسان جديد، هو الشكل الفردي من هذه الحركة العالمية، حاجاته ولا شك أرقى مما رسمته له قيم الاستهلاك الحيوانية، وأوسع من قيم الليبرالية العقيمة. وهذا ما سيحكم خطاب النخب وعقلها ولا شك. فإذا كان التهريج الغربي هو الشكل الرجعي من الأزمة، فإن التسارع يفرض- وهو فرض أساساً- انتهاء هذا التهريج نحو سيادة خطاب أكثر موضوعية حتى ضمن نخب الغرب نفسها.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1086