مَن يحدّد هوية الثقافة المصرية؟
كانت دار الأوبرا المصرية بالقاهرة على مدار الأسابيع القليلة الماضية ساحة لتظاهرات مئات المثقفين والفنانين، المطالبين بإقالة وزير الثقافة الجديد (المعين منذ شهر) علاء عبد العزيز، والمنددين بما وصفوه بـ”محاولات اخونة الوزارة والثقافة”، بعد ان استهدف بقراراته إطاحة عدد من المسؤولين في المؤسسات التابعة للوزارة، كان آخرها رئيسة دار الأوبرا د.ايناس عبد الدايم.
فبعد ساعات من اقالتها صعد المايسترو ناير ناجي رئيس فرقة الأوركسترا بالدار في موعد رفع الستار لبدء عرض أوبرا “عايدة”، معلنا إلغاء العرض احتجاجا على اقالتها في حدث غير مسبوق في تاريخ دار الأوبرا منذ بدء عروضها قبل أكثر من 140 عاما. واعلن العاملون بالأوبرا اضرابا لمدة ثلاثة أيام، فيما اعلن الكثير من المطربين مثل هاني شاكر وعمر خيرت وقف عروضهم وحفلاتهم بالأوبرا لحين رحيل الوزير.
ما الهوية؟
يقول ناير ناجي: “نحن بصدد هجمة ممنهجة لتغيير هوية مصر من ثقافة علمية زاخرة بالتاريخ والفن والابداع الى ثقافة السمع والطاعة. وهذا الوزير لا يمتلك من الامكانيات الا كونه قد اتى بأجندة الجماعة الحاكمة التي تتبنى سلطة فاشية تسعى الى تهميش الفكر والثقافة. ودورنا كمثقفين هو التصدي لهذه الهجمة وحماية الهوية الثقافية المصرية”.
و”حماية الهوية الثقافية المصرية” بتعبير ناجي هي ما رد عليها الوزير مرارا في تصريحات صحافية بقوله: “ومن الذي يحدد هوية الثقافة المصرية؟”. بل وقال إن “الثقافة ليست حكرا على اليسار وحسب”، مضيفاً: “هذه الحملة الشرسة ضدي مرتبطة بتركيبة قديمة، تكونت قبل الثورة، من جماعة احتكرت الفكر والثقافة والفهم والوعي والتوجيه والنصح”، في اشارة منه الى النخبة اليسارية التي قال إنها ظلت مهيمنة على وزارة الثقافة زهاء خمسين عاما مضت.
وبينما يحتل هذا السجال حول من يحتكر مفهوم “الثقافة المصرية” ومن يحدد “الهوية المصرية” و لماذا يجب ان “تحتكرها” النخب اليسارية (الأرقى فكريا والأكثر تقدمية، لا الاسلاميين من الموصوفين انهم محدودو الفكر ورجعيون)، يرى الكثيرون ان أزمة الثقافة المصرية هي أكبر من مجرد خلاف بين نخب تتغير.
“وزارة الثقافة يا اخواننا مش وزارة للمثقفين. دي وزارة للشعب. غرضها لا يجب أن يكون إقامة المؤتمرات والمسابقات والندوات والاحتفاليات والفعاليات الثقافية. غرضها توصيل الثقافة للناس. أنهي ثقافة؟ أنا بصراحة ما يهمنيش. هوية الثقافة ما تهمنيش. إسلامية، علمانية، يسارية، بزرميط. مش مهم. المهم أنا بأعمل ده لمين؟ إذا قلت لي أنا بأعمل ده للمثقفين، فده ما يفرقش عندي عن فاروق حسني وحظيرته”. هكذا كتب د. خالد فهمي استاذ ورئيس أدب التاريخ على صفحته على الفيسبوك الاسبوع الماضي، معلقا على من وصفهم بـ”المتباكين على حال الثقافة”، ومؤسساتها “الميتة بالفعل”. “الكتب والوثائق والتحف واللوحات والموسيقى والمسرحيات والقصص والحكايات لا معنى لها ولا قيمة إذا حفظت وخزنت ولم تقرأ أو تسمع أو تشاهد أو تحكى…”. “ألا يدرك القائمون على الأوبرا وغيرها من مؤسساتنا الثقافية أن معيار النجاح الأهم والأول والأسمى والأنبل يتلخص في سؤال بسيط وأساسي: كام واحد زارك؟ كام تذكرة بعتها؟ كام واحد دخل على موقعك ع النت؟ كام كتاب بعته؟” يتساءل فهمي.
الثقافة وزارة؟
فيما تصاعدت حدة التصريحات والاحتجاجات، ظهرت بعض الاصوات التي تطرح ضرورة استقلال الفنون والثقافة عن قبضة الدولة. فدشن عدد من المثقفين والفنانين الاسبوع الماضي مجموعة “مبدعون من اجل الشعب”، بهدف الاستقلال عن وزارة الثقافة من خلال “الاكتتاب العام في كل أرجاء مصر بطولها وعرضها للسير في طريق الثقافة المستقلة بالشعب ومن الشعب وإلى الشعب، كما كان سائداً في مصر قبل إنشاء وزارة الثقافة”، وفقا للبيان.
“المثقفون هم نتاج طبيعي لتفاعل حر لوسائط الثقافة. فكيف إذا يتولى موظف حكومي مهمة الثقافة؟ كيف يمكن لدولة أن تضع إطارًا واحدًا – مهما بلغت الحرية والتعددية الفكرية لدى الدولة – للثقافة؟” يتساءل الفنان التشكيلي محمد كمال احد مؤسسي المجموعة: “يجب ان يقتصر دور الوزارة على دعم الصناعات الثقيلة التي لا يستطيع الافراد القيام بها مثل المتاحف، وان ترفع الحكومة يدها عن العمل الثقافي”.
يرى الكاتب والمدون أحمد ناجي ان الحل ليس في الغاء وزارة الثقافة، ولكن في اللامركزية وتفكيك مؤسسات الوزارة وتفويضها الى المجتمع الأهلي بحيث يقتصر دور الوزارة على الدعم فقط وليس التوجيه، فتدعم الدولة المجتمع الأهلي والكل أمامها سواء: “ليس دور الدولة وضع استراتيجية الثقافة، بل تقليص صلاحيات الوزارة بشكل كبير جدا بحيث يقتصر دورها على دعم الأنشطة الثقيلة مثل النشر والتراث والمتاحف والارشيف والتوثيق… التي تحتاج بطبيعتها الي تمويل ضخم واستراتيجية تضمن استمراريتها. وتبقى مساهمة الدولة هي تخفيف الضرائب والجمارك على أماكن زي المسارح والعروض والمراكز الثقافية ودعم القطاع الخاص الثقافي”.
يري ناجي انه طالما ان الجهاز البيروقراطي للوزارة ما زال يعمل بالطريقة المركزية نفسها، سيظل عرضة لصراعات الأفراد والتوجهات والنخب.الحل بنظره هو ان يعود خيار الهوية الثقافية للشعب والجمهور، ولا تفرضه نخب مثقفة او نظام على الشعب: “مثلا لماذا لا تكون قصور الثقافة تابعة للمجالس المحلية؟ لماذا لا يتاح لسكان مدينة السلام (حي شعبي بالقاهرة) قصر الثقافة المحلي ليتمرنوا ويقيموا الحفلات على المسرح؟ هذه هي اللامركزية التي اقصدها، فقصور الثقافة لا يجب ان تنفذ استراتيجية ورؤية موحدتين للدولة بغض النظر عن خصوصية المكان، بل توضع برامجها حسب المكان واولوياته”.
“باختصار الحل في نزع كل صلاحيات تشكيل اللحظة الثقافية وتحرير المجال الثقافي من الدولة وقصره على الجزء الذي له علاقة بالحفاظ على التراث الثقافي واحيائه وتوسيع مساحة اوسع للمشاركة المجتمعية”.
* صحافية من مصر
“السفير”