سينما «أبو غريب».. الكاميرا ترصد العسف الأميركي
لا ينوي الخزي الأميركي في معتقلات سرّية موزّعة في بقاع عالمية متعدّدة أن يتستّر. فالسينما له بالمرصاد، إذ تكفّل مخرجون جسورون استكشاف خبايا فضائح لا تستحي، ورصدوا أسرار آثام تمتدّ من كوبا، كما في «الطريق إلى غوانتنامو» (2006) للبريطاني مايكل ونتربتم، إلى أفغانستان ومعتقلاتها، كما في «تاكسي إلى الجانب المظلم» (2007) لألكس غيبني و«الدقيقة الثلاثون بعد منتصف الليل» (2012) لكاثرين بيغلو، مروراً ببلدان شرق أوسطية تورّطت بعمليات تعذيب خسيسة، كما في الإستقصاء السينمائي الباهر للمعلّم إيرول موريس «إجراءات عمل اعتيادية» (2008)، حول فظاعات معتقل أبو غريب العراقي، التي رُصدت كذلك في «أشباح أبو غريب» (2002) لروري كينيدي.
فيلمان جديدان قاربا تلك القباحات البشرية وظروف حدوثها وعواقبها وأدناسها. الأول، من زاوية تنقيب شخصي مع مسؤول أميركي مثير للجدل، نظّم حقبة «الحرب على الإرهاب» ونظّر حولها. الثاني، نصّ روائي رصد خطيئة أقبية ارتهن إليها مجنّد ريفيّ ساذج. في أفلمة متأنية ومراوغة لحديث مطّول مع دونالد رامسفيلد، وزير دفاع عهد الرئيس جورج بوش الابن، حول مسيرته السياسية ومناصبه وصعوده ضمن الطواقم المؤثرة في الإدارة الأميركية وورطات تعاطيه مع شناعات جنوده، في «المجهول المعلوم»، صوّب إيرول موريس بعض تأثيمه لصدمة معتقل أبي غريب، والسلوك التعسفي شديد القسوة الذي مورس على 71 معتقلاً عراقياً على أيدي مجنّدين مسعورين، برّرها المخرج الشاب لوك موران في باكورته الروائية «فتيان أبو غريب» بأنها نتيجة ضجر شخصي عاناه يافعون نفخت ضمائرهم الوطنية بروح القصاص من جناة «غزوة نيويورك» (2001)، لينتهوا تعساء يوميات مفرَّغة من حماسات الحرب وقتالها.
لا يقارب حديث رامسفيلد «هذه النقيصة»، بل يخاتل أجوبته بأسلوب تراكبي يعكس افتتانه باللغة ومباهاته ببلاغته حول سياسات «البنتاغون»، ومحرّكي ألعابه الكبرى وحروبه ضد تنظيم «القاعدة»، وتعذيب قادته في المعتقل الكوبي، وانتهاء بفواجع احتلال العراق. لن يتهم موريس مارداً يتفاخر بأنه لا يملك أسراراً، وبأنه رجل عفوي ومتواضع، بل يترك شخصيته الماكيافيلية ـ التي عاصرت أربعة رؤوساء أميركيين ـ تتكشف عن وحش سلطوي لا يخشى الكذب، وحجّته الفارغة «الأمور التي نجهلها لن نعرفها»، حول قرار الحرب على بغداد. وحينما يُواجه باتهامات تعذيب «أبو غريب» يجيب، على الرغم من آلاف الصوَر الشنيعة المنتشرة على الـ«إنترنت» وغيره من الوسائط، بكلمة يتيمة: «هراء». هذه الأخيرة تبرّر التحاق بطل فيلم «فتيان أبو غريب» الشاب جاك فارمر بالمعارك الموعودة، كون حياته الريفية مليئة بالسأم، وعليه واجب الثأر. لن يضيع المخرج موران، مؤدّي الدور الرئيس، وقتاً طويلاً في عمليات تأهيله، بل يرميه وسط شلّة منوّعة من الأجناس الأميركية. هرباً من ضجر المعسكر وروتينه، يتطوّع المجند في مراقبة معتقلي السجن الرهيب، ليكتشف جلسات شراسة يساق إليها عراقيون «هم أسوأ السيئين». في حيّز مغلق غالبية زمن الفيلم، يصفه الضابط بأن «بين جدرانه، سنربح الحرب على الإرهاب». يشهد البطل رحلات مكوكية لمواطنين للتنكيل بهم. يسمع صراخهم، قبل أن يصادق أحدهم ويدعى غازي.
لئن بقي الوزير رامسفيلد عصيّاً على الاعتراف بالجرائم في نصّ موريس، فإن موران دفع بطله نحو شجاعة رفض التورّط وتدنيس ضميره. جعله ضحية خدعة آخرين يملأون تبرّمهم من «اللاانتصار» بجلسات وحشية، يشاهد البطل ـ إثر إنتهاء خدمته وعودته إلى بلدته النائية، ووسط خيبته الكبيرة ـ صُوَرها الصاعقة على الشاشات، متسايرة مع القول الخبيث لرامسفيلد: «إنهم يطاردون الأرنب الخطأ». لن ينشد هذا الفيلم تصحيح تواريخ، بل ملك انعطافة سينمائية جريئة في ما يتعلق بالعرف الوطني لحرب بوش، عبر اتّهامه المبطّن بتغرير فتية، وتعزيز كينوناتهم بشيطنة عدو غير مرئي، يصبح أي معتقل مشروعاً للإبادة.
المصدر: السفير