فخّ الخارج ويقين الداخل
النديم بو ترابة النديم بو ترابة

فخّ الخارج ويقين الداخل

لطالما ضلل التاريخ الكتاب، فكان شعرهم ونصوصهم ولغتهم تنهش الأبدي وذواتهم تعلق في شبكة المُلك والسلطة والانحرافات الهشة في رؤية العالم، كالحلول القومية أو المثالية أو الثورية الجوفاء التي تنساب منها أبعاد السياسي التاريخي و الجوهر الاقتصادي الذي لا شك في عمقه.  يعشق القراء نصوصهم التي تمد للأممّي جسرا يعبره الحالمون من الثقافة المخبئة نحو العالم، ويعبره حالمون آخرون بالاتجاه المغاير، لكنّ بعضهم يزيح عن وظيفة الأممي اليوم ليكتفي بمدح جماعته وقوميّته بازدياد سيأكل كل المعاني والـتأويلات في نصه، والتي قد تبني الإنسان الجديد والسوري الجديد

فلو عدنا لأعمال بعضهم أبان الحروب السابقة لوجدناها شاهدا ذكيا تفوق على فوضى المعارك المنحرفة والخنادق المتشابهة ، فأرضى الوظيفة الأصيلة للروائي وهي الرؤية الحية لا المتعاطفة مع خندق دون آخر، أما في الأزمة السورية والتي ارتهنت بها حقائق العالم،فقد غادرتهم  وظيفة الروائي ، وظيفة من يسرد كواليس أثقلتها السياسة بالتحوير والتزييف والإخفاء ، لقد تحولوا وتقلصوا اليوم من الرواية المطلعة على جوهر حركة  الناس والأشياء، إلى شخصيات روائية قلقة تعيش على رد الفعل تشبه شخصيات أعمالهم في فتراتسابقة ، شخصيّات روائية قتلها الحنين لطائفتها وليس لفلكلورها، إلى أحقادها لا إلى عبورها الواثق نحو أمميتها ،وقضاياها الإنسانية المطلقة والتي لن ترى الحل دون حركة كونية تتشارك فيها خنادق المنهوبين من وعيهم حتى أخمص وجودهم.

يُورّط قسم منهم الآن، كما فعل البعض مع محمود درويش بعد موته، على صفحات الفيس بوك، بما يكفي لتمزيق كل النصوص وتشويهها كرؤية تسويقيّة ركيكة تردف الانحرافات القومية المتزايدة في خطابهم السياسي، فمثلما تبدأ عبارة  أحدهم السياسية على مواقعالتواصل الاجتماعي بـنحن القومية كذا لا نريد كذا.... أو نحن الطائفة كذا، يتأثث انحراف سيمضي في حرث  أفق ذاك الخطاب لنجد  المغازي والإشارات والأسئلة المحيرة الناتجة عن  الحرث والتقليب في تربة جرداء جدباء ،لكن ماذا عن النتائج التي ستبقى رؤى سياسيةغير واضحة تختار أصنافاً من التهم لأطراف الأزمة  ثم تغادر إلى غيرها ،عندما تتهم  مثلا النظام بأنه بعثي «قومي» يغفل عن تنوع السوريين، وتتهم أحزاباً معارضة بأنها مرهونة لماو ولقبعة ستالين، لكن مثل هذي التهم أو غيرها  تعود وتتطابق مع نافذتهم القومية أوتلك الطائفية في الإقصاء  تجاه السوريين.

لربما الكتابة عندهم تدفق حر من شقاء الجسد والروح والمنفى الذي طال وتغير وتبدل، لكنها أيضا الكتابة من الذات المتضخمة التي أسكنتهم في النص وفي اللغة وفرضت عليه شروط الرؤية، لذا فلغتهم اليوم قد تغدو زادا لن يأكله السوريون ولن يرحلوا إليه ، لغة أضحىخارجها آلاف القتلى هناك في سورية وهي الآن إما في الشمال البارد  كسوق للتأويل البلاغي، لكنه بعيد، وإما في الخليج الدافئ ... ، لقد رسمت الأزمة السورية بأحجياتها  أمكنة حقيقية للإطلالة عليها، يمكن منها فقط  تصنيف أبعاد الأزمة ، فمكان وزمان الأزمة الصحيحهو الداخل ،ومنه يجب أن تنطلق الكتابة والعمل  ،  فلا جدوى للجدل السياسي إلا إذا أطر بالرؤية من الداخل لأزمة تتغير معطياتها في اللحظات والدقائق ، فالأزمة اليوم علمت السوريين أن الخارج هو البعيد ، بعيد عن تعقيدات الأرض واشتباك الوقائع والتمسك الحقيقيبوطنه وبسوريته، ولكن لو عدنا اليوم إلى قاماتهم الفارعة التي تنتمي لأطياف سورية متنوعة وتذكرنا لما هم في الخارج البعيد فماذا سنجد؟ .

بعضهم اتهم دمشق بأنها لا تملك القصيدة، فغادرها مسرعا إلى عواصم مجاورة غير مكترث بأسئلة حول تأسيس الثقافة الوطنية، والتي برحيله عنها قد سلمها طواعيّة لإقصائية الأيديولوجيا الواحدة، أما آخرون فقد قالوا في المنفى مرارا أن لغتهم هي وطنهم، وقد عادوااليوم وأضافوا مدح طيفهم أيضا، لذا يجدر بنا اليوم سؤالهم عن وطنيتهم قبل تلقف آرائهم السياسية لأنها ربما أضحت انتماء من الدرجة الثالثة، فكيف سَتُقبل مواقفهم من بلدٍ غادروه قبل أن يناضلوا لأبسط حقوقهم فيه، وهو المواطنة!

إذا وجودهم في الخارج هو انتماء للخارج وحده، ولغة الخارج لن تقرأ أزمة أبداً حتى وإن أسلمت الكبار حبرها.