العلم يعيد ترتيب أوراقه: الإنسان في بؤرة الاهتمام
ما الذي يعنيه بالنسبة للعلم أن تكون المرحلة الراهنة الممتدة هي مرحلة الأسئلة الكبرى حول المجتمع والحياة متضمنة بذلك الأسئلة حول الإنسان؟ ما الذي يعنيه بالتحديد أن المرحلة الراهنة هي مرحلة انتقال تحرير الإنسان تاريخياً؟ ذلك يعني بشكل أساس أن العلم في هذه المرحلة التاريخية عليه أن يضع الإنسان في مركز رؤيته بحيث يصير الإنسان أيضاً موضوعاً من مواضيع الثورة العلمية في المرحلة الراهنة، لا بل إنه سيكون مركز هذه الثورة كذلك.
العلوم في مراحل الإنتقال
عند كل انتقال من تشكيلة اقتصادية- اجتماعية إلى أخرى كان العلم يشهد تمحوراً حول موضوع معيّن أو عدة مواضيع تكون هي بؤرة تركيزه. وهذا لا يحصل اعتباطياً طبعاً، بل تحددها حاجات التطور الاقتصادي- الإنتاجي للتشكيلة القادمة. وهذا بدهي. فبعد الانفصال عن العصر الحجري للمجتمع، وبدء السيطرة على الطبيعة في المجتمعات البدائية، وتحديداً عبر مهارات التعدين، والتحكم بالزراعة والبذور وفهم الطقس وحركة الأرض، ولاحقاً أيضاً ومع التعقيد الاجتماعي ظهرت ضرورات التنظيم المدني للمجتمع الناشئ ومنها البناء الكبير، والسفر البحري البسيط، والسلاح البدائي، وعلى إثر ذلك تطورت الحاجة لدراسة مواضيع هذه القضايا بشكل أعمق، كمواضيع مقاومة المادة، وحركة السوائل، وخصائص الضوء، والعديد من الأمراض وبالتالي علوم التشريح وغيرها... لهذا تطورت نواة علوم الطبيعة كعلم الفلك والطب والفيزياء والكيمياء والرياضيات كعلم مجرد كان ضروريا لتجريد علاقات الظواهر وحركتها، ولهذا شهدت مرحلة ثلاثة آلاف عام قبل الميلاد تقريبا انتعاشة لتطور هذه العلوم إن كان في مصر أو في بلاد ما بين النهرين والعالم السوري القديم، وبشكل منفصل في الصين والهند. وتتبع بسيط لتاريخ الإختراعات يسمح بسهولة بتلمس هذا التطور للعلم المرتبط بحاجات المجتمع. وكان تطور العلوم غير مركزي عالمياً، فالتطور التاريخي للمجتمعات في تقطعاته بالمعنى الجغرافي جعل العديد من الشعوب تساهم في دورها في تطور العلوم. وكل تطور اجتماعي جلب تطوراً جديداً للعلم. ولكن الإنفجار الأكبر للعلوم هو في عصر الإنتقال إلى الرأسمالية، فالإقطاع لم يحتج إلى علوم «قوية»، ولا العبودية، فالرأسمالية كونها اقتصاد إفراط إنتاج واستهلاك، دفع تطور مختلف العلوم، التي خدمت تطور الآلة والنقل وفهم خصائص المادة والاتصال... ولهذا كانت أهم الاختراعات مركزة في عدة مئات من الأعوام منذ مطلع الرأسمالية. وكان التطور الأهم من بين هذه العلوم هو تطور علم الاقتصاد- السياسي الرأسمالي ولاحقاً الماركسي عندما تطلبت الحاجة التاريخية السيطرة على حركة التاريخ وقوانينها ليس فهما بل ممارسة أيضاً، وهذا سببه شمولية الرأسمالية للكوكب والمجتمع البشري وتطوره العام.
الإنسان كموضوع للعلم
طوال هذا التاريخ الطويل للعلوم كان الإنسان (المتكامل) ثانوياً إذا أمكن القول، فالإنسان الجسد كان موجوداً في علم الطب الجسدي، بينما الإنسان المعنوي جزء أساسي من الفلسفة. ولكنه بدأ ينتقل إلى مركز العلم شيئاً فشيئاً مع بدايات الرأسمالية (وظهور الإنسان الفرد)، وهنا بدأ إلى حد ما التوحد بين الإنسان الجسد والإنسان النفس في العلم. وهكذا كان ظهور علم النفس متأخراً في تاريخ العلوم(دون أن ننفي بذور المقولات العلمية حول الإنسان المتكامل في العديد من محطات التاريخ القديم ولكنها بقيت مقولات).
وكان علم نفس الرأسمالية بقي خاضعاً لحدود وحاجات الرأسمالية. ولهذا فإن الاتجاهات السائدة ضمن الرأسمالية هي نفسها منذ بدء ظهورها في القرن التاسع عشر حتى اليوم على الرغم من التغيرات التي شهدتها عبر الدمج بينها أو إضافة عناصر جديدة إليها على ذات الأرضية. أي إن المنطلقات المنهجية والأنطولوجية والمعرفية بقيت هي هي. حسناً، ولكن كان لظهور الإشتراكية على مسرح التاريخ، في الإتحاد السوفياتي، دور ثوري في نقل الإنسان إلى بؤرة العلم، وذلك نابع من طبيعة الإنتقال الذي تقوم به الاشتراكية لناحية تحرير الإنسان، وبالتالي في محاولة فهمه الموضوعية دون مخافة من طبيعة هذا الفهم الموضوعي. وهذا جوهر مقولة ماركس بأن الشيوعية هي النظرية هي التي لا تخاف من النقد والحقيقة، بل تحتاجها للتطور. فظهر ما يسمى بعلم النفس الماركسي في شكله الأولي وقدم نقلات ضخمة في كل أسس علم النفس، أو بالأحرى علم النفس- أعصاب وفهم عمل الدماغ وآلية الانعكاس، وبنية العقل والوعي، وقوانين تطوره الجدلية التاريخية ربطاً بالممارسة والعلاقة بنظام الإنتاج وأدوات الإنتاج... ولكن هذا البحث عاد وخفت في مرحلة التراجع الثوري.
الانتقال التاريخي الراهن
إذا ما كانت المرحلة الراهنة هي مرحلة تجاوز المجتمع الطبقي ككل، فهذا يفرض بالضرورة تحرير علم الإنسان من قيود الفكر الرسمي الذي فكك الإنسان ووضعه في «فضاء الفراغ» كما يسمي بعض الباحثين اليوم طبيعة علم النفس السائد، لا بل يعلن الإنسان نوعاً من الطلسم ويسميه بالعدمية.
إذا يمكن القول بأن التشكيلات الاقتصادية السابقة كانت تعمل على تحرير قوى الإنتاج شيئاً فشيئاً، ولكن مركز الثقل كان فيها لصالح تحرير الجانب التكنولوجي من قوى الإنتاج. أما اليوم فإن مركز الثقل يجب أن يشمل الجانب البشري من قوى الإنتاج. وذلك يعني لما يعنيه أيضاً توحيد الجانب الجسدي والروحي من الإنسان، وهذا يستتبع بالضرورة الانتقالة الفلسفية في التاريخ لصالح الفكر المادي- التاريخي. ومن هنا مقولة بأن المرحلة الحالية هي مرحلة الإجابة عن الأسئلة الأساسية كلها ودفعة واحدة. فالتنظيم الاجتماعي القادم، لا بل إن الإنتقال والدفاع عن الوجود في وجه مشروع الإنتحار الجماعي للامبريالية يفرض أن يتحول الإنسان ومشروع الإجابة عن أسئلته في قلب علم وخطاب وممارسة المشروع النقيض التقدمي. فالمواجهة الشاملة تفرض ذلك، بما يتعدى الجانب الاقتصادي- النقدي والعسكري. ولذلك فإن المعركة الثقافية التي تتكثف ملامحها اليوم (وإن بشكلها الدفاعي حتى الآن)، ولاحقاً تطوير وتنظيم المجتمع القادم، ستضع العلوم مجدّداً أمام مهمة أن يكون الإنسان في بؤرة عملها مضافاً إلى ذلك حاجة التكنولوجيا الذكية الحديثة إلى ذلك في كونها تستمد قوتها من الفهم الموضوعي للإنسان وقوانين وعيه.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1066