«أقنعة بارت» لجوناثان كيلر.. الإعفاء من المعنى
«أسيرُ دائماً وأنا أُشير إلى قناعي»، عبر مقولة بارت هذه، يتنقل بنا الناقد البنيوي الأميركي جوناثان كيلر بين كتابات رولان بارت كاشفاً الأقنعة ـ المراحل الفكرية التي تنقل بينها بارت، ليبلور الأوجه ـ الإسهامات المختلفة التي انطوت عليها حياة بارت الفكرية.
عن «الهيئة العامة لقصور الثقافة» سلسلة آفاق عالمية، كتاب الناقد البنيوي الأميركي جوناثان كيلر، والترجمة للسيد إمام، تحت عنوان: «أقنعة بارت»، وفيه لم يبدُ كيلر معنياً بتقديم استعراض لحياة بارت، وليس معنياً كذلك بتقديم سيرة حول حياته المهنية أو الإبداعية، بقدر ما يُقدم رؤية تنطوي على كثير من النقد، قدر انطوائها على كثير من التقدير والإعجاب. رؤية تحليلية لكلير تقوم على فحص إنجازات بارت وتقييمها في ذات الوقت، تتلمس مواطن تفوقه وامتيازه، بقدر ما تُشير إلى مواضع ضعفه وإخفاقاته.
أما لماذا بارت مرة أخرى؟ وهل ثمة ضرورة لاستعادة بارت هذه المرة؟ وما هو الجديد الذي يمكن أن يقدمه كيلر عن بارت؟ الجديد هنا هذه المرة هو أن يكون كاتب هذه الدراسة هو جوناثان كيلر نفسه، صاحب الإسهامات المؤثرة في النظرية الأدبية، هو الذي شارك في المشهد الأدبي المعاصر بالعديد من الدراسات الهامة، على رأسها: كتاب «الشعرية البنيوية»، «التفكيكية»، «دي سوسير»، «مدخل إلى النظرية الأدبية»، الخ. كيلر إذاً، أول من قدّم البنيوية إلى أميركا.
يرى كيلر أن من الصعب تصنيف بارت أو حصره تحت أي مسمى من المسميات. لقد كان كل هذه الأشياء المتنافرة جميعها، كان دائماً يشير إلى نفسه بعبارة: «أسير دائماً وأنا أشير إلى قناعي». كان معجباً باستعارة القناع، ويرى في سيرة عمله النقدي والإبداعي مجرد تناوب للأقنعة، ما إن يرتدي قناعاً حتى يسارع إلى استبداله بقناع آخر، لا يلبث هو الآخر أن يُستبدل بآخر، وهكذا، حتى أن سيرة حياته وعمله الفكري لا تعدو أن تكون متوالية من الأقنعة. أما كيف يتسنى لنا البحث عن حقيقة أصلية خلف هذه العلامة المراوغة؟ يسأل كيلر ويُجيب ـ إنه مثل النص (وليس الأثر) الذي كان دائم الحديث عنه: مُراوغ، فتّاك، مسرح للإنتاجية والنشاط، وساحة تلتقي فيها العديد من المعاني المتضاربة.
يتناول كيلر في كتابه: «أقنعة بارت» جميع وجوه الرجل ومنها المؤرخ الأدبي، والميتولوجي، والناقد، والمُناظر، والسيمولوجي، والبنيوي، ورجل اللذة، والكاتب، والأديب، ويتوقف مطولاً عند كتابات بارت التي تكوّن بشكل متزايد على ما يبدو أسطورة قوية، أسطورة «الإعفاء من المعنى»، ومن الطبيعي أن يحلم بعالم معفى من المعنى، ولقد بدأ هذا مع «الكتابة في الدرجة صفر» فالحلم عنده يوجد دائماً، ليس باللامعنى، ولكن بأشكال فارغة من المعنى. كما يتوقف كيلر عند بارت رجل اللذة، ويجد في كتاب «لذة النص» نظرية في اللذة النصية كما يعترف بارت نفسه: «إن ما يُمتّعني في قصة ما، ليس محتواها مباشرة، ولا حتى بُنيتها، وإنما الخدوش التي أركّبها على السطح الرقيق. إن الإحالة إلى الجسد جزء من المحاولة العامة لبارت لإنتاج بيان مادي للقراءة والكتابة يضم أربع وظائف محددة، منها أن إحلال الجسد محل العقل يتفق مع تشديد بارت على مادية الدال كمصدر للذة. بارت عندما يستمع إلى غناء، يُفضّل المظهر الجسدي «للصوت» على التعبير، المعنى أو النطق. ويستمتع في اليابان بالإبهام الذي يميز ثقافتها بالنسبة للأجنبي الذي لا يستطيع رؤية المعنى الذي يكون واضحاً بالنسبة إلى مواطن ياباني.
الكتابة عند بارت فعل لازم، وهو يمنح نفسه إجازة في أن ينتحل ويستثمر لغة اختصاصات أخرى. إن الرغبة في الكلمة في داخل بارت هي التي تسود، ولكن اللذة النابعة منها تتشكل جزئياً بفضل نوع من الاهتزاز.
كيلر يرى في خلاصة كتابه، في تميز بارت ككاتب عظيم الأثر، وفي أن أساس فنه هو استخدام إحدى المفردات وإيحاءات سياقها المعتاد، في سياق كامل الاختلاف. إن بارت يصف خياله بوصفه تناظرياً وليس استعارياً، يهتم بمقارنة أنظمة وليس موضوعات معينة، وهذا في آن معاً، أحد ملامح أسلوبه واستراتيجية تحليلاته عامة.
المصدر: السفير