هل لروسيا أصدقاء؟ عن صدمة العقل وتحويل الواقع
على وقع المعركة التي تخوضها روسيا في أوكرانيا في وجه النازية كتعبير عن المواجهة العامة مع المنظومة الامبريالية المأزومة ومحاولتها جر العالم أكثر وأكثر نحو جحيم البربرية والوحشية، وما أفرزته الأحداث من انكشاف جوهر النظام العالمي المعادي لكل ما ينادي به من إنسانية وخداع حول اللاأيديولوجيا واللاتسييس، وعلى وقع الموجة العنصرية ضد الروس (حالياً) والصينيين (سابقاً وحالياً) في الغرب بشكل عام، والتي لم توفر الأدب وحتى الحيوان من فاشيتها، يبرز السؤال: هل لروسيا أصدقاء في هذه المعركة؟
حول الأوزان الجديدة
كانت الأيام الأخيرة، إضافة إلى ما برز في الأيام الأولى من عدم قدرة خوض الغرب معركة مباشرة مع روسيا، فإن الأيام اللاحقة أظهرت «استيعاباً» نسبيا للصدمة السياسية في العالم، وبرز ما يمكن تسميته إطار المعركة العام وسرديته من الموقع النقيض للغرب، أي بكونها معركة في مواجهة النازية بشكل مباشر، وهذا لا يعني فقط كلاماً أوكرانياً، بل هو كلام يطال موقع هذه المعركة التاريخي من الإمبريالية ككل، أي في كونها معركة ضد «الديكتاتورية الإرهابية السافرة لأكثر عناصر رأس المال رجعية وشوفينية وإمبريالية» على حد تعبير جورجي ديمتروف. اكتساب المعركة هذا البعد التاريخي والعالمي دقيق للغاية، ويعطي المعركة جوهرها السياسي العام بعيداً عن الحدث الأوكراني سابقاً وحالياً، أي بعيداً عن تفاصيل الدرع الصاروخي وضم الدول إلى حلف شمال الأطلسي. هذا الإطار العام بدأت ملامحه تظهر حتى في التبدلات البسيطة للمواقف الشعبية داخل وخارج روسيا، ليس فقط جرّاء الموقف التاريخي من النازية والفاشية، بل أيضاً جرّاء الممارسات التي بدأ تتصاعد في سياق الحرب. تلك الممارسات التي تقوم بها المجموعات الفاشية القومية تجاه المواطنين الأوكران بالدرجة الأولى. إنّ إرساء هكذا خطاب في الأيام الماضية رافقه مواقف (منها المحايد ومنها الداعم للعملية الروسية) من غير مكان، إن كان من ضمن المجتمعات الغربية نفسها أو من غيرها من دول العالم، والتي تعبّر عن أبعاد التوازن التاريخي المتكوّن. إن هذا التباين في المواقف إن كان من باب الطاقة أو التبادل السلعي أو الغذائي على وقع العقوبات أو إن كان من باب الموقف من الهجرة أو الانجرار إلى حرب شاملة أو ازدواجية المعايير الغربية التي تفعل فعلها تحديداً لدى الروس الذين يعتبرون أنفسهم معادين «للنظام الروسي» بينما هم اليوم في موقع الممتعض من السلوك الغربي الفاشي الصريح، هذه المواقف ما ظهر منها وما سيظهر لاحقاً، هي تعبير عن الوزن الكبير «الصديق» لروسيا. إنها صداقة الواقع الموضوعي نفسه. ولكن الوزن الحقيقي لا يزال أكبر بكثير مما يظهر. إنه وزن أفق ومستقبل هذه المعركة المفتوحة وما تحمله من احتمالات عالم جديد للبشرية الذي يتجاوز الوزن السياسي المباشر الحالي.
صدمة العقل
ما يحصل وكونه يطرح إعادة تشكيل العالم، فهو كما أشرنا سابقاً سيساهم في إعادة تشكيل العقل على مستوى العالم. إعادة التشكيل هذه، التي بدأت تتكشف معالمها من باب الصدمة، لها قيمة تاريخية هي إعادة إنتاج تصور جديد عن العالم نقيضٍ لذلك الذي شكلته الهيمنة الثقافية الإمبريالية الليبرالية على الوعي البشري طوال العقود الماضي. وتحديداً منذ تصاعد أزمة الاتحاد السوفياتي، أي منذ أن أصبح الحلم الليبرالي قبلة البشرية، وقبل أن تصير جغرافيا الغرب هي مسرحه المبتغى. فالصدمة اليوم صارت واقعة خاصة بقوة الضرورة بعد أن كانت تظهر على شكل أزمة ضمنية في هذ العقل. في السابق كان هذا العقل يعيش أزمة عدم قدرة تحقيق ما وعده به ذلك الحلم، إن كان بسبب واقع العلاقات الرأسمالية التغريبية التي تفرغ كل ممارسة مما هو إنساني، وإما بسبب الأزمة الاقتصادية التي ضيقت هوامش ذلك الطموح الليبرالي لحدوده الدنيا، منتجة بذلك أزمات عقلية ونفسية خطيرة بسبب كونها مدمرة للأهداف والدافعية التي كان تحملها. هذا التدمير حصل في دول الأطراف بشكل حاد بسبب الأزمات السياسية والاقتصادية والعسكرية والحروب، ولكنه حمل في المركز شكل أزمات عقلية وعلائقية ونفسية أكثر منها أزمات ظاهرية. ولكن المساحة التي كانت متاحة سابقاً هي أن الغرب لا يزال قبلة الهجرة من الأطراف، وهذا ما كان ولا يزال يشكّل مساحة طموح «العقل» لمن هم في دول الأطراف، حتى روسيا والصين. بينما كان من هم في دول المركز الغربي يعتقدون بأن مكاسبهم السابقة يمكن أن تعود، علّهم يستمرون في سعيهم نحو الحلم الليبرالي الموعود. ولكن جاء الحدث الأوكراني لكي يؤدي بالأزمة إلى نهايتها المنطقية. ما حصل حالياً هو أن وقوف الغرب نفسه على طريق تصاعد الأزمة، وتحديداً أوروبا، التي ستكون الخاسر الأكبر بالمرحلة القادمة، جرّاء تأثير الإجراءات تجاه روسيا وانعكاسها التردّدي على الأزمة الحاصلة أساساً.
مجرد ما إن برزت احتمالات «انهيار» الفضاء الأوروبي الذي كان بالنسبة للبعض هو المعطى المطلق والأبدي، أنتج ذلك تقليصاً عظيما للمساحة التي كان «العقل الليبرالي» يناور فيها، ودخل في حالة صدمة حول عالمه ككل. فالعالم الذي تعود عليه لم يعد كما كان ولن يعود.
العقل المصدوم صديق «روسيا»
إن صدمة العقل هذه هي في جوهرها تعبير عن الحالة التاريخية في مجال الوعي المكافئ للفاشية على المستوى السياسي. فإذا كانت الفاشية كشكل الجنون السياسي في مرحلة الأزمة العميقة للرأسمالية، فإن الصدمة الروحية والعقلية هي حالة الجنون النفسية للعقل الفردي في لحظة تحطم الفضاء الإيديولوجي والثقافي للعالم الرأسمالي الحالي في كل قيمه ومعانيه وأهدافه التي رسمها للبشرية على طول الكرة الأرضية وعرضها. هذه الصدمة الروحية والعقلية تشكل، كما تشكل الحالة المواجهة للنازية، صديقاً «لروسيا». فهي في جوهرها تحمل موقفاً نقيضاً للإمبريالية بما هي نمط حياة رأسمالي وصل حد البربرية التي انحدرت بالإنسان وعقله إلى حالة الموت السريري. ولهذا فإذا كان موقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من تشكيل إطار مواجه للنازية هو التعبير السياسي عن الأوزان الحالية العالمية، فإن رفع المشروع الحياتي القادم للبشرية، أي تقديم نمط الحياة البديل نفسه هو رفع تجيير الوزن التاريخي المستقبلي لصالح المعركة الحالية المفتوحة. فهي ستطال الشعوب بشكل مباشر فيما هي تعيشه وتفكر به، داخل روسيا وفي العالم. أي يجب أن يتم تحويل جوهر هذه الصدمة إلى طاقة «صديقة» من خلال مساعدة مئات الملايين على إنتاج تصور جديد عن العالم نقيضٍ للذي تهدّم ولا يزال.
التصور الجديد عن العالم يعني فيما يعنيه طرح مشروع حياة نقيض لنمط الحياة الاستهلاكي التغريبي، نحو مجتمع الإنتاج والإبدع، الذي لطالما حكت عنه أدبيات التغيير عبر التغيير، وتحديداً الماركسية كونها طرحت أنّ قاعدة هذا التحول هي في تغيير نمط الإنتاج وعلاقاته، نحو إنتاج جماعي، هذا وحده سيفجر الطاقة التاريخية التي يختزنها المجتمع اليوم، ويحوّل المعاناة من معادية إلى «صديقة» لا بل ستصير هذه الطاقة هي نفسها المواجه الأول في وجه عدو البشرية.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1060