دوستويفسكي والمسألة الشرقية
تاستانبيك ساتباي تاستانبيك ساتباي

دوستويفسكي والمسألة الشرقية

في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، دخلت الإمبراطورية العثمانية في فترة أزمة اجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية. واستجابت السلطات المهتمة في المقام الأول بمصالحهم الخاصة، بدلاً من مصالح الدولة والعامة. استجابة بطيئة للتحديات الجديدة.

 الاستجابة كانت بطيئة لدرجة أن المعاصرين كان لديهم انطباع بأن تركيا كانت عالقة في مستنقع، وأن البلد محكوم عليه بالفشل وليس له خاصية التنمية والتقدم.
في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، أصبحت عمليات التفكك واضحة لدرجة أن السياسيين الأوروبيين بدأوا يطلقون على تركيا اسم «رجل أوروبا المريض». وعلى الرغم من «النصر باهظ الثمن» الذي تم إحرازه بتحالف مع بريطانيا وفرنسا في حملة القرم ضد روسيا، فقد ازداد ضعف تركيا. وتفاقمت الأزمة الداخلية في البلاد لدرجة أن مسألة تقطيع أوصال أراضيها كانت على جدول الأعمال الدولي. هكذا نشأت المسألة الشرقية في الحياة الدولية الأوروبية.
ربطت روسيا في ذلك الوقت هذه القضية، أولاً وقبل كل شيء، بالحل الناجح للمسألة السلافية، أو بالأحرى القضية السلافية الجنوبية. وشارك ممثلو الأدب الروسي في القرن التاسع عشر، ومن بينهم الكاتب الروسي العظيم فيودور دوستويفسكي، بنشاط في مناقشة «الفرصة التاريخية» التي نشأت بين الشعوب السلافية الشقيقة. ونادراً ما تصبح آراء دوستويفسكي التاريخية موضوع دراسة خاصة، بينما لا يتم تجاهل العديد من الكلاسيكيات الروسية في هذا الصدد.
إن المفهوم التاريخي لدوستويفسكي يتميز أولاً وقبل كل شيء، بنظرة أرثوذكسية دينية للعالم، بما في ذلك نظرته إلى التاريخ الروسي. وكان يعتقد أن الفكرة الكاثوليكية التي تمثلها فرنسا التي فقدت دينها، غارقة في «المادية» وفقدت مصداقيتها، ووقعت في نقص الروحانية، ولهذا السبب بالذات، لا يمكن للغرب أن يقود العالم المسيحي. فعهد دوستويفسكي بهذا الدور لروسيا، فأعظم الإنجازات التي حققها الروس بالفعل في تاريخهم ومستقبلهم هي غرض إنساني عالمي، خدمة مشتركة للإنسانية والعالم، وليس لروسيا فقط لروسيا أو السلافيين فقط.
تفحص الكاتب «المسألة الشرقية» التي تعود في رأيه حتى قبل بطرس الأكبر والإمبراطورية الروسية. ولد في أول تجمع للقبيلة الروسية العظمى في دولة روسية واحدة، أي مع مملكة موسكو. فالمسألة الشرقية هي الفكرة البدائية لمملكة موسكو، والتي اعترف بها بطرس الأكبر إلى أعلى درجة، ولنفس الغرض، يجب أن تكون القسطنطينية ملكنا عاجلاً أم آجلاً. (فيودور دوستويفسكي، يوميات كاتب، فهم طوباوي للتاريخ).
توقعاً لاعتراضات المعارضين، حث دوستويفسكي روسيا على الاعتقاد بأن هذا مبرر أخلاقي للاستيلاء على العاصمة التركية: نعم، القرن الذهبي والقسطنطينية، كل هذا سيكون لنا، إذا لم يحدث هذا من قبل، فذلك بالضبط لأن الوقت لم ينضج بعد. (فيودور دوستويفسكي، يوميات كاتب، فهم طوباوي للتاريخ).
عادة، لا يأخذ دوستويفسكي في الاعتبار تركيا كعقبة سياسية على هذا الطريق، لأن تركيا ممزقة ومصابة بالفساد وليست دولة صحيحة. ولا يؤمن دوستويفسكي بمستقبل تركيا كدولة أوروبية في استقلالها الاقتصادي والسياسي، بينما يسمح لنفسه بتعريف مهين لها على أنها «دولة من الرخويات» أو «مدمرين وقتلة لبلدهم». آمل ألّا يسيء هذا التوصيف القاسي للمجتمع التركي آنذاك إلى شعور الأتراك المعاصرين، لأنهم كانوا صورة طبق الأصل عن الدولة البائسة للإمبراطورية العثمانية، التي لم يجد حكامها لقرون القوة أو الرغبة في تحديث المجتمع التركي، بينما في اليابان البعيدة استغرق هذا الأمر بضعة عقود فقط.
دعونا نعود إلى «المسألة الشرقية» في رؤية دوستويفسكي المهووس بالفكرة الأرثوذكسية: موسكو هي روما الثالثة ولن تكون هناك روما الرابعة. يؤكد الكاتب أن موسكو لم تصبح روما الثالثة بعد، ولكن في غضون ذلك، يجب أن تتحقق النبوءة، لأنه لن تكون هناك روما الرابعة، ولن يستغني العالم عن روما في تحرير السلاف الجنوبيين من نير تركيا على يد روسيا، ويرى الخطوة الأهم في تنفيذ ذلك: لا يمكن لروسيا أن تخون الفكرة العظيمة التي ظلت معلقة عليها لعدة قرون والتي اتبعتها بثبات حتى الآن. هذه الفكرة، بالمناسبة، هي اتحاد السلاف الشامل، لكن إعادة التوحيد ليست استيلاء أو عنفاً، بل من أجل خدمة الإنساني، كما كتب دوستويفسكي يسأل سؤالاً بلاغياً: نعم، ومتى وكم مرة عملت روسيا في السياسة من أجل منفعة مباشرة؟ (فيودور دوستويفسكي، يوميات كاتب، المسألة الشرقية).
في هذا الاتجاه، يطور دوستويفسكي فكرته ويوضح: وهذه الوحدة ليست للاستيلاء أو للعنف، وليست لتدمير الشخصيات السلافية أمام العملاق الروسي، ولكن من أجل إعادة تكوينهم ووضعهم في مكان مناسب في العلاقة مع أوروبا والإنسانية، لمنحهم الفرصة للهدوء والراحة بعد قرون لا حصر لها من المعاناة، وجمع شجاعتهم وتقديم مساهمتهم في خزينة الروح البشرية، وكلمتهم الجديدة في الحضارة.
يرى دوستويفسكي في حل المسألة الشرقية وفقط مع الحل النهائي لهذه المشكلة، يمكن لروسيا أن تتعاون أخيراً مع أوروبا لأول مرة في حياتها. لكن أوروبا لا تصدق هذا، ولا تصدق نبل روسيا ولا عدم اكتراثها،
ومع ذلك، يتميز دوستويفسكي نفسه بالتحيز والسخرية وعدم الثقة العميق في خطط المسألة الشرقية التي اقترحها الغرب، وفي المقام الأول من قبل بريطانيا العظمى.
لا تقل الاعتراضات العاصفة التي أثارها الرأي الدبلوماسي القديم لدوستويفسكي الذي ينص على منح القسطنطينية مكانة «مدينة دولية حرة»، أي إن مستقبل المدينة يجب أن يقوم على توازن القوى السياسية بين القوى الأوروبية القوية. ويرى دوستويفسكي في هذا مجرد حيلة دبلوماسية من الغرب. لن تكون هناك مثل هذه اللحظة في أوروبا، مثل هذه الحالة السياسية، بحيث لا تكون القسطنطينية ملكاً لأحد. هذه بدهية، وكتب مقنعاً الانتماء الحتمي للمدينة إلى روسيا في المستقبل. وهي الحقيقة الرهيبة بالنسبة لأوروبا هي كابوسها، مخاوفها الرئيسية في المستقبل.
في الختام، أود أن أشير إلى أن الفكرة المغرية المتمثلة في الوحدة السلافية والاستحواذ على القسطنطينية واحتلال ساحل بحر مرمرة والوصول إلى البحر الأبيض المتوسط. كان أحد أسباب هذا الدخول المتسرع عن طريق الخطأ للبلاد في الحرب العالمية الأولى التي تحولت فيما بعد إلى كارثة لروسيا. ولكن تحقق حلم دوستويفسكي التاريخي في تكوين جديد، في شكل الاتحاد السوفييتي الذي وحد العديد من الشعوب السلافية والجمهوريات الأخرى ضمن إطار النظام الاشتراكي.
تكمن أهمية دراسة موقف دوستويفسكي من المسألة الشرقية في أنه على الرغم من التوضيح الممل للعلاقات بين الشعوب السلافية الحالية، على الرغم من التناقض المثير للجدل أحياناً، فإنه يكشف لنا طبقات عميقة من سوء التفاهم وانعدام الثقة المتبادل بين الغرب وروسيا التي تمت دعوتها للتغلب، ليس فقط على السياسيين الحاليين!
* تاستانبيك ساتباي، دكتور في العلوم التاريخية، جامعة كيزيلوردا، كازاخستان 

معلومات إضافية

العدد رقم:
1049
آخر تعديل على الإثنين, 20 كانون1/ديسمبر 2021 20:43