مترو برلين- حلب
سلمى عبدالله سلمى عبدالله

مترو برلين- حلب

مضت ثلاث سنوات تقريباً على وجودي في برلين. لغتي الألمانية باتت معقولة، وشعوري بالغربة عن المكان وعن الناس بات أقل وطأة مما كان عليه في البدايات؛ على الأقل، أصبحتْ مألوفةً الشوارعُ التي أسلكها يومياً من السكن إلى العمل ذهاباً وإياباً، وحتى وجوه الناس لم تعد غريبة تماماً، رغم أنّهم لا يزالون غرباء، ولست أظن أنّ هذا سيتغير مهما طال بي العهد هنا... ربما أتحمل جزءاً من المسؤولية عن اغترابي وغربتي عن الناس هنا، لأني كثيرة الاشتياق للبلاد وأهلها، ولا أجد في هذا الكون الرحب ما يعوضني عنهم، ولكن بعد هذه السنوات بت على يقين بأنّ المسؤولية الأساسية هي على نمط الحياة الرتيب وشبه الآلي في هذه البلاد الباردة.

المقارنة بين أنماط الحياة وبين الشعوب وعاداتها، قد يكون واحداً من أكثر المواضيع متعة في إطار الدراسات المقارنة بحقولها المختلفة، التاريخية والفنية واللغوية والاجتماعية والنفسية... ولكنها بالنسبة لي، تكاد تكون في بعض الأحيان ضرباً من المازوخية وتعذيب الذات!

يوم أمس، خرجت من عملي الساعة السابعة. مشيت بشكل آليٍ نحو محطة المترو تحت الأرضي (U-Bahn) ودخلتها. انتظرت المترو، جاء المترو، صعدت مع الصاعدين وكان حظي جيداً أن وجدت لنفسي مكاناً للجلوس في ساعة من ساعات الذروة، وقبالتي جلست فتاة ألمانية مليحة الوجه ترتدي كمامة باللون الأسود.

حتى تلك اللحظة، كان يوماً عادياً كأي يومٍ آخر خلال السنوات الماضية، ولكنّ تعباً متراكماً جسدياً ونفسياً، ومعه البرد المتواصل وغياب الشمس، كانت كلّها قد استقرت في عظامي وروحي، وكانت ترعبني فكرة أنه لا يزال أمامي عشر دقائق من المشي في البرد لأصل إلى بيتي بعد الصعود من المترو، لذا تمنيت لو أن المترو يتحول إلى «قطار الحياة» كما في المسلسل، والذي يسير إلى ما لا نهاية، فقط لكي أتمكن من النوم.

غفوت للحظة دون إرادة مني. لم يدم نومي أكثر من دقيقتين، أستطيع التأكد من ذلك بمعرفة اسم محطة المترو التي أفقت عندها. لكنّ هاتين الدقيقتين كانتا كافيتين لكابوس كامل!

رأيتني في بلدتي التي في أرياف حلب، وبين أفراد عائلتي، وكلنا محشورين في إحدى غرف البيت، بينما الرصاص يلعلع في الشارع. وسمعت صوت صواريخ تنطلق وصواريخ تحط وتنفجر، ولم أصرخ ولكن بكيت.

حين أفقت من الكابوس بدأت التفكير ببطء، ولم تزل بعد آثار الكابوس، لأنّ الأصوات التي كانت في الحلم كانت هي أصوات المترو بالذات؛ لأنّ الحركة الفيزيائية لكتلة المترو ضمن الفتحات تحت الأرضية التي يمر بها، تشبه حركة الصاروخ عند إطلاقه، ولذا فإنّ الصوتين متشابهان. وكذلك ترجرج المترو على المنعطفات يشبه صوت الرصاص وصوت شظايا التفجيرات. وأما صوت الفرامل لدى الوقوف عند كل محطة (وهو ما أفزعني وأفاقني من الكابوس)، فهو أشبه بصراخ جماعي لنسوة أصابهن فزع الحرب وخوف فقد الأحبة.

سخرت من نفسي سخرية مرّةً على هذه التشبيهات والمقارنات التي لا معنى لها. وبينما أجري هذه المقارنات، كانت الفتاة الجميلة التي قبالتي تقرأ شيئاً أو تتكاتب مع أحدٍ ما على موبايلها، وعلى وجهها ابتسامة مطمئنة. كل تلك الأصوات لم تستثر فيها أيّة كوابيس أو أي قلق أو انشغال بال... كانت مطمئنة، مطمئنة تماماً...

وصلت محطتي وخرجت من المترو. قضم البرد قطعة إضافية من أعصابي ريثما وصلت إلى البيت، ولكني وصلت على أي حال ودفّأت عظامي. لكن سؤالاً مرّاً لا يزال دائراً في روحي المرتعشة: هل سيأتي يومٌ أركب فيه من محطة منبج وأصل بعد عشر محطات مثلاً إلى حلب المدينة؟ هل سيأتي يوم أركب فيه مترو حلب وأكون مطمئنة، مطمئنة، مطمئنة تماماً؟

معلومات إضافية

العدد رقم:
1047
آخر تعديل على الإثنين, 06 كانون1/ديسمبر 2021 21:11