في تخطي الليبرالية- الإنسانوية: حصار الوباء ضد الهزات الوطنية
منذ انتشار فيروس كوفيد-19 وفي سياق المقارنات ما بين الدول حول كيفية تعاطيها مع الوباء، وتظهر المقارنة غالباً من باب الموقف الإنساني للدول، أي مدى اهتمام تلك الدول بالإنسان مقارنة باهتمامها بالاقتصاد. فقيل مثلا إن الولايات المتحدة الأمريكية فضّلت الاقتصاد لصالح الإنسان، بينما الصين على العكس فضّلت الإنسان على الاقتصاد. في هذا التحليل يقام تعارض ما بين الاقتصاد والإنسان. أو يتم تقزيم المسألة إلى قضية حقوقية إنسانية بحتة. وحين يتم الكلام عن الاقتصاد، يتم تقزيم المسألة إلى قضية اقتصادية مطلقة، في تغييب اللحظة السياسية الراهنة العالمية. وفي هذه المادة سنحاول الإضاءة على البعد السياسي الوطني في سياق الصراع العالمي بين الخط الصاعد الذي تمثله الصين وروسيا وبين المركز الإمبريالي بالاستعانة ببعض المعطيات الاجتماعية الداخلية الصينية.
حول الصراع مجدداً
الجميع، وتحديداً الغرب، في صراع مع الوقت ربطاً بتعمق الأزمة. الوقت بالنسبة للغرب هو مسألة تراجع وزن الهيمنة الإمبريالية، بينما بالنسبة للخط الصاعد، هو القدرة على السير على وقع تصاعد التخريب الإمبريالي الناتج عن ضيق وقت الإمبريالية، وتسريع خطا الإنتقال العالمي إلى أرضية التبادل المتكافئ لضم أكبر قدر ممكن من العمليات الاقتصادية والإجتماعية والسياسية إلى هذه الأرضية في هذه الدول نفسها وفي العالم. وأيّ ملف من شأنه التأخير للطرف الصاعد سوف يشكل قاعدة لظهور تعقيدات جديدة وملفات منفجرة جديدة.
كوفيد-19
شكّل ظهور الوباء في بداية العام الماضي في الصين تحدّياً جدياً للصين والعالم، نتيجة التداخل الكبير الذي حصل خلال العقود الماضية على مستوى التبادل التجاري والبشري بين الدول ما شكّل قاعدة موضوعية للانتشار السريع. وبمعزل عن أصل الوباء والجدال حوله، إلا أن التعامل معه شكل منذ البداية نقطة خلاف ما بين الدول. فالصين كانت ومنذ الشهر الأول على إغلاق وعزل مدينة ووهان بالكامل، والتي يقدّر تعداد سكانها بحوالي الـ 13 مليون إنسان. في حين بقي العالم متأخراً شهوراً عديدة على اتخاذ أي إجراء جدّي. وبقيت الصين متشددة جداً حتى بعد أن وصلت حالات الإصابات إلى صفر إصابة ضمن البرّ الصيني على مدى أكثر من سنة تقريباً. والصين هي الدولة الوحيدة التي أقامت إدارة طوارئ على طول البلاد وعرضها يمكن القول عنها إنها فعلاً ضبطت الحدود البرية والجوية والبحرية بشكل شبه كامل. فالسفر إلى الصين وحده يحتاج إلى موافقات من كل سفارة لدولة يمرّ عبرها المسافر (ترانزيت) إلى الصين، وتشمل فحوصات الأجسام المضادة وفحص الحمض النووي للفيروس، مع مدة حجر عند الوصول قد تصل إلى 28 يوماً. ناهيك عن ربط جميع المقيمين في الصين بقاعدة بيانات واحدة تقوم بتتبّع حركتهم وتقيّم وضعهم الصحي بشكل مستمر.
حول تهافت الخطاب الإنساني - الاقتصادي البحت
وفي هذا السياق غالباً ما يكون المنطلق للموقف من هذه الإجراءات الداخلية من موقع الليبرالية الفردية «الإنسانية»، إمّا ضدياً، فالصين «تحدّ من الحريّة الفردية» وتتخذ إجراءات «غير الإنسانية»، وتستعبد الجميع عبر التكنولوجيا الحديثة والداتا الكبيرة. وإما ضدياّ من هذا الموقف، حيث يعبّر الداعمون أن الصين على العكس لأنها تهتم بصحة الإنسان الفرد، لا الاقتصاد، فهي تقوم بهذا الإجراء، ويجري التبرير من موقع الرد على الهجوم على الطرح الإنساني الليبرالي، فيتم اتهام الغرب بأنه يهتم للاقتصاد أكثر من الإنسان (وهذا بدهيّ في الرأسمالية). ولكن يتراجع إلى الخلف موقع النظر إلى أن مخاطر تهديد التماسك الداخلي للبلاد واحتمال الفوضى هو خطر سياسي أساس، لا يمكن السماح بتحوله إلى واقع في سياق الصراع الوجودي بين عالمين يتصارعان.
بعض الوقائع الديمغرافية الصينية
في العقود الماضية، تصاعد متوسط معدل الأعمار في الصين إلى حوالي 39 عاماً تقريباً، ويعد هذا من المعدلات العالية عالمياً، متجاوزاً بذلك الولايات المتحدة الأمريكية، وموازياً لروسيا وبولندا، وقريباً من فرنسا (41 عاماً)، وبعض الدول الأوروبية الأخرى(هنغاريا 42 عاماً، إسبانيا 43 عاماً)، أما الوسطي الأعلى تسجله مثلاً اليابان وإيطاليا بحوالي 47 عاماً، تليهما ألمانيا بـ46 عاماً، بينما تسجل النيجر المعدل الأقل بحوالي 19 عاماً. وتشكل فئة كبار السن في الصين في العام 2020 حوالي 13,5% من السكان، بزيادة واحد بالمئة عن السنة الماضية، لصالح انخفاض الفئة العمرية ما بين 15-64 عاماً (68,6%)، وارتفاع معدل الفئة العمرية ما بين 0-14 عاماً(17,9%). في هذا السياق، وربطاً بمعيار العمر الاعتمادي (معدل السكان المعتمدين على الفئة التي هي في سن العمل)، فإن الصين سجلت في العام 2017 معدل 37,5%، وهي نسبة متوسطة عالمياً، مقارنة بالولايات المتحدة التي لديها عدد سكان أكبر معتمدين على غيرهم (على الفئة العمرية ما بين 15-64 عاماً) في معيشتهم (52,27%)، وغالبية دول أوروبا التي يتجاوز فيها المعدل الـ40%. أما روسيا فتسجل معدل 46,6% مثلاً. حيث نصف السكان يعتمد على النصف الآخر في معيشته.
إضافة إلى ذلك، تأتي الصين في مرتبة عالية نسبياً في عدد الأسرة نسبة لعدد السكان بمعدل 4,2 سرير لكل 1000 شخص، حيث تحتل المرتبة 42 عالمياً، مقارنة بـ 2,9 سرير في الولايات المتحدة (تحتل المرتبة 61 عالمياً)، بينما تعتبر موناكو وكوريا الشمالية (أعلى من كوريا الجنوبية بنسبة 3 أَسِرّة) وبيلاروسيا من الأعلى عالمياً، بمعدلات 13,8، 13,4، و13,2 على التوالي. بينما تعتبر روسيا (8,4 سرير) وألمانيا (8,2 سرير) من الأعلى أيضاً. مضافاً إلى كل ذلك، فإن الصين تعتبر من الأعلى عالمياً في الكثافة السكانية، المدينية تحديداً (حوالي 61% من الصينيين هم في المدن)، حيث تقدر بـ 153 شخصاً في كم2 (المرتبة 80 عالمياً، بينما مقاطعتا ماكاو وهونكونغ الصينيتان تحتلان المرتبتين الثانية والرابعة بحوالي 717,21 و140,7 شخصاً في كم2 على التوالي) نظراً للمساحة، بينما لناحية الكثافة في المدن الكبرى الأساسية فإن الصين تحتل المرتبة الـ20 تقريباَ بمتوسط يتراوح ما بين 5,000 و8,000 شخص كم2 (المراتب العشر الأعلى ذات كثافة تتراوح ما بين 9 إلى 11 ألفاً، والعشر الأوائل تتراوح الكثافة فيها ما بين 12 إلى 44 ألفاً- دكا/بنغلادش ومومباي/الهند من الأعلى كثافة: 44 و32 ألفاً على التوالي وهذا ما يعبر عن كمية الإصابات في الهند تحديداً).
خلاصات سريعة
يشكل الاقتصاد المنتج الحقيقي الرافعة المادية للصين، ولنموها الثابت. وهذا يعني انخراط القطاع الأكبر من الطبقة العاملة في هذا القطاع (تقدر الإحصاءات بالعاملين بالقطاعين الزراعي والصناعي بحوالي 53% من القوى العاملة)، أما الباقي، أي العاملون في قطاع الخدمات، ومن ضمنها التجارة، يعيش بغالبيته على هذه القاعدة المادية. والأهم، أن قطاع التجارة في الصين يعد من ضمن توابع الاقتصاد الحقيقي، فالتصدير بالنسبة للصين هو مصدر نموها السابق. وإذا ما اعتمدنا الأرقام أعلاه، فإن التركز العالي للسكان العاملين في المدن، مع اعتبار حوالي ثلثي السكان من العاملين، ومعدل الأعمار المرتفع عامة، ولدى فئة غير قليلة من العاملين، فإن انتشار الوباء بين السكان سيكون سريعاً جداً، خصوصاً في ظل الانخفاض النسبي لعدد الأسرّة الطبية (الصين في المرتبة 42 عالمياً). إضافة إلى عاملين خاصين بالصين، الأول هو: العائلة ذات الولد الواحد، والثاني هو: العيش بعيداً عن مكان المنشأ، حيث غالبية سكان المدن اليوم هم من الريف سابقاً، وبالتالي فإن أي اضطراب في النسيج الاجتماعي الناتج عن الإصابة الشديدة والوفيات سيسبب حركة انزياح سكاني داخلي كبيرة، من أجل رعاية العائلة ربطاً ببنية العائلة شديد المحدودية عددياً، وخصوصاً أن قسماً كبيراً من الكادر العامل اليوم في مجالات خطة حصار الوباء هم من المتطوعين الشباب الذين يملكون هامش الحركة على عكس ما كان سيحصل لو خرج هؤلاء من دائرة الإمكان على التطوع. فالتقاليد العائلية في الصين ما زالت قوية جداً (فالمرحلة التي حصل فيها اكتشاف الوباء أساساً كانت فترة أعياد رأس السنة الصينية، وهي الفترة التي ينتقل فيها داخلياً مئات الملايين من البشر بين المدن والقرى). هذا من شأنه أن يخل بالانتظام الاجتماعي والاقتصادي للبلاد في خروج قسم كبير من السكان من العملية الاقتصادية إما مباشرة، أو بسبب الاضطراب الاجتماعي. وهذا في بلد بحجم الصين يعني مئات الملايين من السكان التي يجب أن يتم إطعامهم ونقلهم ورعايتهم ميدانياً (كما حصل عبر بناء المستشفيات) ناهيك عن الاضطرابات الاجتماعية التي قد تنشأ.
وهذه السياسة اتبعت بعد انفلات للمتحور الهندي الشهر الماضي والذي تم حصاره بوصول عدد الإصابات البارحة من حوالي 115 حالة يومياً في 9 آب، إلى 3 حالات على كامل البر الصيني. فعكس ذلك يعني تهديداً وطنياً للصين لم يكن من الممكن السماح به على حد تعبير بعض الخبراء الصينيين في تصريحات أخيرة.
معلومات إضافية
- العدد رقم:
- 1032