فيلمان .. ومال عربي في سينمات العالم
غاب العرب وأفلامهم الطويلة، هذه المرّة، عن الخانات الرئيسة للدورة الـ64 (6 ـ 16 شباط 2014) لـ"مهرجان برلين السينمائي"، وحضر مال مِنَحهم على واجهة محيط ساحة "بوتسدامر" الراقية. هل هذا مدعاة فخر؟ ربما. إلاّ انها فرحة عاثرة. لا ضير من مشاركة مال سينمائي عربي في نتاجات عالمية. مرّت تجارب الدعوم العربية، منذ أعوام قريبة، على عناوين، كثيرها متواضع القيمة، وقليلها ذو مغزى ونفع ومردود.
مثلٌ على ذلك: فيلمان أميركيان لاتينيان. الأول بعنوان "تاريخ الخوف" للأرجنتيني بنجامين نايشتات (المسابقة الرسمية)، الحاصل على منحة "مؤسّسة الدوحة للأفلام" في قطر، التي اعتبرته "مشروعاً مبتكراً يجسّد صوتاً جديداً ومثيراً في السينما العالمية". يشي عنوانه المباشر بروحيّة خطابه الطبقي والسوسيولوجي القاتم حول فئة اجتماعية مرفّهة، تتحصّن في مجمّع سكني شديد الحراسة. الثاني بعنوان "سيزار تشافيز" للمكسيكي دييغو لونا (عروض خاصة)، المسنود من قبل شركة "إيمج نيشن أبو ظبي"، الذراع التابع لـ"شركة أبوظبي للإعلام" الإماراتية. وهو يحمل اسم شخصية نقابية من أصول "إسبانية"، خُلّدت بنضالها الأسطوري في الذود عن حقوق قطاع خدميّ مسحوق في جنوب الولايات المتحدة. يمثّل الفيلمان نوعين متضاربي الدوافع والمعالجات. لا نقاش هنا حول مرجعية دعمهما وغرضيته، فهذه قضية جديرة بسجال خاص أكثر روية. إن مَنْ يقرأ معالجتيهما الأدبيتين، لا بدّ من أنه أُخذ بالرنّة الخاصة لحدثيهما الثقيلي المقاصد، على أن يفاجأ، مهما كانت فطنته وخبرته، من أن خواتمها على الشاشة جاءت مخفقة. الجليّ أن نصّيهما استندا إلى شخصيتين هائلتي الدراما، خانتهما تثاقفية فكرة العمل الأول، وقلة ابتكارية العمل الثاني.
استهدف نايشتات (1986) ثيمة خلاّبة ولعوب، سؤالها أزلي: ما هي تمظهرات خوف البشر؟ كيف يغويهم وينال من شجاعاتهم؟ هل الروع قيمة سايكولوجية أم قانون سياسي تفرضه قوى غامضة تسعى إلى التسيّد وإرضاخ قطيعها البشري بأي ثمن؟ في مفتتح عمله، تطلق طائرة هليكوبتر غير مرئية، عبر ميكروفون زاعق، تحذيرات أبوكالبتية تنذر قاطني الأحياء الراقية في ضواحي بيونس آيريس بنهاية الأمان. على الأرض، نتابع يوميات عامل شاب يمتحن رعب الآخرين بأشكال استفزازية. تارة أولى حول مجرمين وهميين اقتحموا المجمّع، وتارة ثانية حول ولد يافع يهين والده بينما الظلمة تحاصرهما، وتارة ثالثة حول لعبة أسئلة خبيثة يورّط بها ضيوف عائلة سعياً إلى إثارة فزعهم. إنها حكاية أناس مذعورين من كل شيء، بدءاً من أزمة الاقتصاد العالمية، إلى فوبيا اختفاء أولادهم، مروراً بهواجسهم الجنسية. مثلما هي أُحدُوثة حول رقي اجتماعي مرهون بحصانات طبقية تهدّدها حثالات بشرية. "تاريخ الخوف" أقرب إلى دفتر كائن "سيكوباثي"، ينتهي متفرّجه إلى فراغ سينمائي، وادّعاء خطابي، على الرغم من قوّة صنعته.
شخصية النقابي سيزار تشافيز (1927 ـ 1993) أقوى بدرامية حياته وتفاصيلها من أفلمتها على يدي لونا. رجل عصامي وجسور وعنيد وملهم. صاحب المقولة الشهيرة: "نعم، نحن قادرون"، التي وجدت صداها لاحقاً في الحملة الانتخابية للرئيس الأميركي باراك أوباما. انخرط في العمل النقابي بداية الخمسينيات الماضية، قبل أن يُجبر إقطاعيي تكساس البيض على الاستسلام، وتأمين حقوق جحافل من عمال السخرة "الهسبانك". انتصار لونا لحكاية تشافيز خطوة سينمائية بليغة. بيد أن اختياره خطاً سردياً تراكمياً شديد التقليدية، جعله مغرقاً بأنفاس هوليوودية تفخيمية غير مبرّرة، أثقلت بدورها الدقائق المئة بثرثرة متواصلة هدفت بعناد إلى "نفخ" بطولته التي لا غبار عليها. إلى ذلك، فإن محاولة لونا (1979) تحويله إلى إيقونة طبقية عرقية ذات مسوح يسوعية شابها عوج إيديولوجي، كون الرجل اختار طريقه كعامل سخرة وهو في السابعة عشرة من عمره، كي لا تعمل والدته في قطف الخضراوات، وهو فصل أسقطه لونا من حساب فيلم محسوب النيّات، لكنه خال من حماسة السينما.
المصدر: السفير