وحشُ «شبكات التواصل» يمتصّ الحركة

وحشُ «شبكات التواصل» يمتصّ الحركة

لفتنا الأسبوع الماضي، وفي سياق الصراع في فلسطين المحتلّة، أن منصّات التواصل «الاجتماعية» العالميّة مارست انطلاقاً من دورها ووظيفتها، قمعاً للصوت المعادي للصهيونية وللكيان. أُغلِقت صفحات لتنظيمات، وحُجِبَت حسابات لأفراد. فاحتدم الجدل على هذه المنصات بالذات، حول عدم ديمقراطية هذه المنصات، وعن ضرورة الصراع لانتزاع الديمقراطية منها. ولكن يبدو أن وظيفة هذه الوسائل وقاعدة عملها ليس مطروحاً المسّ بها عمليّاً. وهذا يرجع ربّما إلى تبادل منافع محدود بين المنصات ومُستخدميها. تبادل المنافع الذي طالما جرى الكلام عنه، في إطار محاولة الأفراد إشباع الحاجات التي ضاق بها المجتمع، فانفتح لها «الصّدرُ الرّحب» لهذه المنصّات!

الصّراع على أرض العدّو

يجب التذكير مجدّداً بأن قاعدة عمل هذه المنصات السائدة، ومنها: فيسبوك، لا تختلف نهائياً عن قاعدة عمل الرأسمالية. إنها موجّهة ربحيّاً، استهلاكية في قيمها وتعزّز الفردانية الليبرالية، وهي تفتيتية واحتكارية في آن. فلمَ الاستغراب من سلوكها القمعي الذي عبّر عنه مستخدمو هذه الشبكات؟ إنّ هذه المنصّات تعمل ضمن وظيفة عامّة، هي تعطيل فعاليّة الحركة الاجتماعية عبر استيعابها. هذا مشابه لتيارات فكرية- سياسية ظهرت في التاريخ، وكانت تسعى إلى التلاؤم مع قواعد عمل النظام القائم وعلى أرضه. مثالٌ عليها: هو التيار البرلماني، الذي حصر النضال ضمن «الديمقراطية البورجوازية» نفسها، أي: ضمن المفهوم البروجوازي للديمقراطية التمثيلية. طُرِح الأسبوع الماضي عن تخفيض تصنيف فيسبوك على الشبكة من خلال تخفيض التقييم من قبل المشاركين أنفسهم. إنها لعلاقة لافتة فعلاً، كيف أن الناشطين على المنصة التي يتنفسّون معنوياً عبرها، يريدون الإبقاء عليها، وفي ذات الوقت تخفيض تصنيفها، وكأن تصنيفها لا يأتي من عدد مستخدميها، هؤلاء المستخدمون الذين لا يبدو أنهم يرون لنشاطهم وجوداً، أو احتمال الوجود خارج هذه المنصات. وهكذا يتم تأطير مجمل الحركة الاجتماعية السياسية في قنوات عمل النظام نفسه. فخوازرميات المنصّات الاجتماعية تقوم بدور توجيه النشاط، ومحاصرة المستخدم بما يريده هو نفسه رؤيته، كعمل المشعوذة، أو العرّافة، أو الأبراج، التي تقدّم للذي يلجأ إليها بما يريد سماعه غالباً. إضافة، إلى أن المنصات ترفع وهمياً من الوزن الشخصي للفرد عبر إبراز أهميّة منتجه الذي يقدّمه، والمعيار هو مدى التجاوب. هكذا تنغلق الدائرة، فاجتلاب اعتراف أكبر يتطلب مجهوداّ أكبر. ما هو هذا المجهود؟ إنه تضخيم قوة الفرد، وإبراز تمايزه ضمن حدود المعايير الاجتماعية نفسها للنجاح الفردي. إنها فعلاً لمهمة شاقّة بائسة.

تبادل منافع وهمي

في هذه الدائرة المغلقة البائسة التي تزيد ضيقاً شيئاً فشيئاً، هناك قاعدة تاريخية من قلب تراث النظام الرأسمالي نفسه تفعل فعلها. إنها قاعدة الإنتفاع على حساب النظام نفسه. هي قاعدة الارتزاق على جسم النظام، إما معنوياً أو مادياً. فإضافة إلى فيسبوك الذي يشكّل أساساً مصدراً للإشباع المعنوي للذاتيات المتضخمة (ومصدراً ربحياً لأصحابها)، تُشكِّل منصّات أخرى مصدراً للتكسّب المادي، حيث إن زيادة المعجبين والمشتركين تزيد حجم الربح المادي لصاحب الحساب، كالتيكتوك مثلاً. وهذا الارتزاق بحد ذاته هو كابح للحركة خارج حدود هذه الأطر. وكما هو معروف، فكلّما ركدت المياه أو انحسر الهواء في الغرف المغلقة، كلما زادت عوارض الطفيليات والأمراض.

الحركة السياسية في تماهيها مع المنصات

هذه هي أمراض كل حركة بشكل عام، فما بالنا إذا ما صارت هذه الحركة نفسها متماهية مع هذه المنصات؟ هناك جدلية صارت بارزة، وهي أنه كلما انكبحت الحركة السياسية (كما الفرد أيضاً) عن الفعل السياسي- الاجتماعي المباشر، أي: عن الحضور الفاعل، كلّما تضخم وزنها على الشبكة التي هي الفضاء المتاح للحضور. هذه الجدلية من الحضور والغياب تحضر لدى بعض التنظيمات على شكل ظاهرة ملهاة مأساوية. بعض التنظيمات «الثورية» مثلاً، إذا ما أغلق زعيم «التعبير الحر» فيسبوك صفحاتها عن المنصة، اختفت من الوجود عملياً. هذا التماهي مع المنصة يعبّر عن طور ما من أطوار الحركة في مرحلة انكباحها، أو عن الحركة المأزومة بالتحديد. واليوم ولا شك، لا تزال الحركة السياسية الثورية في العالم من تداعيات مرحلة التراجع الماضية التي لم تقدر بعض الحركات الخروج منها، وهناك القوى التي خرجت من الأزمة، ولكنها تعاني اليوم من توازن القوى القائم الذي لم «يطبش» الميزان عالمياً بعد لصالح الخط الصاعد فيه. هذا التوازن له جانبه التقدمي المساعد ولا شك، ولكنه أيضاً له جوانبه الكابحة. وهذا الانكباح العام لدى البعض، والنسبي لدى البعض الآخر، يزيد من عوارض ركود الحركة، والتضخم على المنصات «النظامية» هو أحدها. ولهذا، يجب فتح مجاري المياه، وإخراج الهواء الحبيس عبر التصدي الواعي لهذه الظواهر. أولاً: عبر إبراز وجود هذه الظاهرة للوعي العام، ونقصد لدى القوى السياسية الثورية الحيّة من جهة، فمكونات هذه القوى هم من أفراد في هذا المجتمع في المقام الأول، ولهم منطق حركتهم الفردية الخاص نسبياً. والأهم هو: تقديم الطروحات البرنامجية التي تحرر علاقة الاغتراب الحالية إلى الناس بشكل عام. وهناك مهمّة وضع مشاريع لبدائل ماديّة تشكّل تحويلاً لمنطق المنصات الحاليّة من جهة أخرى على المدى المتوسط (يمكن مراجعة مادة قاسيون: عن «كوربين» والـ «فيسبوك» الاشتراكي وقانون تفاوت التطور- عدد 897).
إنه ولا شك، أن النظام العالمي يحاصرنا إعلامياً بأسلحة فتاكة، لم تخطر ولو من قريب أو بعيدٍ على ذهن المفكرين الثوريين الأوائل في مدى تأثيرها الجارف والكاسح واللحظي. وهذا يرفع ولا شك وزن ضرورة البدائل التقنية في يد القوى البديلة، التي يبدو أنه صار لزاماً أن تتحول إلى عمل يتخطى كل قوة بذاتها، نحو عمل دولي واسع قد تشترك (ليس بالمعنى التنسيق السياسي العالي فقط)، لا بل يجب أن تشترك به، دولٌ بحد ذاتها، وليس هذا الاحتمال بعيداً عن العمل الجبهوي الذي حصل سابقاً في التاريخ، دون أن يعني هذا العمل نوعاً من الأمميّة التنظيمية المباشرة. فالبيان والجريدة والندوة والتقرير على ضروراتهم ليسوا كافين- ولا شك- لفك هذا الحصار المطبق. إنها مهمة تقتضي الإبداع لأدوات العمل الجديدة التي لم تُنتج بعد.

معلومات إضافية

العدد رقم:
1019